لايزال تشكيل الدولة في الجزائر عملية متواصلة، وخير دليل على ذلك الوضع في المناطق الحدودية الشمالية الشرقية من البلاد. ومع سماح المسؤولين الجزائريين في هذه المناطق بتهريب الوقود وبعض السلع الأخرى عبر الحدود مع تونس، ومع تبديد المهربين للتهديدات الأمنية حتى وهم يقومون بتجارتهم غير المشروعة، فإن هذين الطرفين (المسؤولين والمهربين) اللذين يفترض أنهما خصمان، يكملّان في الواقع بعضهما البعض. وهذه العلاقة غير المعتادة تعزّز تدخّل الدولة في سبل عيش المواطنين حتى وهي تتلاعب بسلطة الدولة.
- التفاعل بين سلطات إنفاذ القانون وبين المهربين، يدفع إلى التساؤل حول الحكمة التقليدية المتعلقة بالسلطة المركزية في دولة حديثة وحدوية. وفي الجزائر، ظهر التهريب كجزء لا يتجزأ من عملية تشكيل الدولة (المتواصل).
- أبقى إهمال الدولة ونقص الوظائف معظم البلديات في المناطق الحدودية في شمال شرق الجزائر في حالة فقر وتخلّف. ونتيجةً لذلك، ضرب التهريب جذوره العميقة وبات بالنسبة إلى بعض العائلات مهنة تتوارث من جيل إلى جيل.
- أسفر تغاضي مسؤولي إنفاذ القانون عن التهريب عبر الحدود، مع الوقت، عن نشوء اقتصادٍ موازٍ، يشكّل اليوم معظم التجارة بين الجزائر وتونس
-
- بالنسبة إلى سكان المناطق الحدودية الجزائرية، يوفّر تهريب السلع المحظورة من وإلى تونس مهنة هي في آن مبررة ومربحة. والمهربون أنفسهم لا يعتبرون الحدود نقطة نهاية بلادهم وبداية بلاد أخرى، بل يُطلون عليها بكونها حاجزاً مصطنعاً من الضروري التحايل عليه.
- من وجهة نظر السلطات المحلية، يعمل التهريب كصمام أمان يخفّف بعض الضغوطات الاقتصادية التي يشعر بها سكان الأقاليم الشرقية المهملة. علاوةً على ذلك، يعزّز المهربون جهود الأجهزة الأمنية لإبعاد التهديد الثلاثي للمخدرات والأسلحة والجهاديين.
- بمعنى ما، فإن التحالف الضمني الذي تم تشكيله بين المهربين والسلطات المحلية يطمس التمييز بين ما هو قانوني وغير قانوني ويمحو النقاط على طول الحدود بين الجزائر وتونس. أما في ما يتعلق بالصورة الأكبر، فهو يمنح الأطراف التي كان يفترض أن تكون هامشية، سواء المهربين العاملين في الظلال أو مسؤولي الحدود الوضيعين، القدرة على التحايل على السياسة العامة للدولة بطريقة منظمة ومستدامة.
يتقاطع في الجزائر التفاوت الجغرافي مع اللامساواة الاقتصادية. إذ تعاني العديد من الولايات الواقعة في أقصى شمال شرق البلاد، على الحدود مع تونس، من تهميش اجتماعي واقتصادي عميق. من غير المحتمل أن يتغير هذا الوضع في المستقبل القريب، بل من المرجّح أن يستمر إهمال مثل هذه المناطق النائية وأن يزداد سوءاً بما أن الجزائر تعاني من حالة انتقالية دائمة. وفي هذا السياق، كان في وسع النظام إعادة إنتاج وتجديد نفسه، وإن من غير تغيير حقيقي، منذ استقلال البلاد في العام 1962.1
بالنسبة إلى سكان المناطق الحدودية، يوفّر تهريب السلع المحظورة من وإلى تونس إحدى فرص العمل القليلة الثمينة، في منطقة تتسم عادةً بالبطالة. وهذا النشاط يجري على قدم وساق وعلى نطاق واسع إلى درجة أنه خلق اقتصاداً موازياً غير مشروع. وفي بلد مركزي وشبه سلطوي كالجزائر، يتطلّب هذا النوع من التنمية انصياع وقبول ممثلي الدولة.
والحال أن أي فهم لأهمية التهريب عبر الحدود في الجزائر الحديثة لن يكون تاماً أو منجزاً من دون أن نضع في الاعتبار الحقيقة بأن المهربين، على وجه العموم، متواطئون مع مسؤولي الحدود الجزائريين. والأمر الحاسم هنا أن هذه الظاهرة مقبولة من لُدن السلطات العليا المحلية، التي تبرر التراخي في إنفاذ القانون بالقول إن السلع المهربة إلى تونس تخدم كمحرك للاقتصاد المحلي في المناطق المهمشة والمتخلفة. وبالتالي، فهي تخفف من وطأة السخط ضد الحكومة المركزية في الجزائر العاصمة.
إذا قامت الدولة بقمع المهربين، فسيشعر سكان الأراضي الحدودية بمزيد من التنفير وقد تزداد المنطقة اضطراباً. علاوةً على ذلك، من دون وسيلة بديلة لكسب لقمة العيش، سيواصل بعض الأشخاص الانخراط في التهريب، من دون منح مسؤولي الحدود الإشراف على أنشطتهم. قد يقع هؤلاء المهربون فريسة لإغراءات الجهاديين- الذين تجنّبوهم حتى الآن- ويتولّون نقلهم مع أسلحتهم ذهاباً وإياباً عبر الحدود. وفي سبيل تسليط الضوء على مدى دقة هذا الوضع، ستقوم هذه الدراسة بالتدقيق في السياقات الجغرافية والاجتماعية التي تتحكّم به.
أين تقيم يعني الكثير: عبء الجغرافيا
تُعدّ الجزائر أكبر بلد في أفريقيا، إذ تبلغ مساحتها نحو 2.4 مليون كيلومتر مربع. جغرافياً، تشطرها الهضاب العليا إلى شطرين، عبر انطلاقها من شمال شرق البلاد باتجاه الجنوب الغربي. إلى شمال الهضاب، ثمة شريط ساحلي مكتظ بالسكان؛ وإلى جنوبها تنتشر كتلة أراضٍ تضم تجمّعات سكانية متناثرة وتقع ضمن الصحراء الكبرى. وتتشاطر الجزائر، مع جارتها الشرقية تونس، حدوداً بطول 1034 كيلومتراً. ومنذ الثمانينيات، شهدت مناطق حدودية عدة داخل الهضاب العليا، بما في ذلك الطارف والونزة وتبسة، زيادة سكانية ملموسة بفعل تدني مستويات وفيات الأطفال، وأيضاً النزوح الريفي.2 وهذا لم يكن حال المناطق في الجنوب على حدود الجزائر مع تونس.
بيد أن برامج التنمية التي تديرها الدولة لم تكن متّسقة مع معدلات الزيادة السكانية. علاوةً على ذلك، فشلت الدولة الجزائرية مراراً وتكراراً في إقامة نمط توزيع منتظم للاستثمارات في المناطق الداخلية للبلاد. على سبيل المثال، تجتذب منطقة تبسة استثمارات أكثر من أي إقليم آخر في الولاية التي تحمل الاسم نفسه. تبسة هذه، التي تقع بين جبال الأوراس والحدود الجزائرية- التونسية، هي موطن أحد أضخم احتياطي للفوسفات في الجزائر، إذ تضم نحو ثلاثة مليارات طن.3 في العام 2018، احتوى قضاء تبسة على نصف الـ5571 مؤسسة صغيرة ومتوسطة الحجم الموجودة في ولاية تبسة، وعلى 17546 موظفاً من أصل 30600.4
إن الموقع الجغرافي المعزول للهضاب العليا، ولاسيما أن شطراً كبيراً منها يقع على مرتفعات شاهقة، يعرقل عملية تنسيق الموارد ويزيد أكلاف مشاريع التنمية، وهذا يؤثّر حتى على الإدارة. نظرياً، ووفقاً للخطة الإدارية الأولية، يفترض أن يكون هناك مسؤول رسمي واحد لكل 341 مواطناً، لكن في الواقع هناك مسؤول لكل 1794 مواطناً.5
معدل الفقر في منطقة الهضاب العليا ككل يبلغ ثلاثة أضعاف النسبة الوطنية، واللامساواة في الدخل تصل إلى 27.7 في المئة، وفقاً لآخر تقارير مؤشر Gini.6 وبالمثل، نسبة الالتحاق في مدارس الهضاب العليا، التي تبلغ 80 في المئة، أقل نسبياً من المعدل الوطني (91 في المئة). كمعدل عام، تبعد أقرب مدرسة ابتدائية، ومتوسطة، وثانوية، 16، و14، و29 كيلومتراً على التوالي. وينسحب الأمر نفسه على العناية الصحية، بمعدل 25 كيلومتراً عن أقرب صيدلية و41 كيلومتراً عن أقرب مستشفى.7 أما بالنسبة إلى الكهرباء، فيبدو التفاوت الإقليمي واضحاً. إذ إن معدل الإمداد الكهربائي في الشمال يصل إلى 93 في المئة من المنازل، في مقابل 83 في المئة في بلديات الهضاب العليا. كما أن إمدادات مياه الشرب، ومرافق الصرف الصحي، وغاز الطبخ متدنية نسبياً هي الأخرى.8
ستصبح البطالة مشكلة مستوطنة بما أن الهضاب العليا، وخاصة المناطق الحدودية، غير مجهزة لاستيعاب دخول الشباب السنوي إلى سوق العمل.9 تفاخر الطارف، التي تبعد 600 كيلومتر عن الجزائر العاصمة وأقل من 50 كيلومتراً عن الحدود التونسية، بمواردها المائية والزراعية وثروتها من الآثار التاريخية التي تجتذب بسهولة السياح إليها. لكن في العام 2006، لم تكن سوى لنحو 42 في المئة من سكانها الذين يبلغ عددهم 420 ألفاً وظيفة ثابتة.10 وبعدها بعقد واحد، في العام 2017، وصل معدل البطالة إلى 25 في المئة من حاملي الشهادات الجامعية، و10 في المئة ممن يفتقدون لمثل هذه الكفاءات.11
ثمة نموذج آخر عن هذه الظاهرة في بلدة الونزة الشرقية، التي لفتت الانتباه الوطني في العام 2012، عندما قام طالب علم الأحياء البالغ من العمر 22 عاماً، رمضان ميخازنية، بالانتحار حرقاً للهروب من ظروفه المعيشية البائسة.12 تضم الونزة، المعروفة بمنجم الحديد الذي يغذي مصنع الصلب ArcelorMittal الواقع في عنابة، مناطق كاملة تفتقر إلى مرافق أساسية. ففي هذه المناطق، معظم الطرقات متدهورة، والنقل العام يتوقف عند الساعة الخامسة بعد الظهر. التزويد بالكهرباء والماء لا يزال مشكلة عويصة، والافتقاد إلى البنى الطبية التي يُعتد بها صارخ. صحيحٌ أن هناك مراكز صحية في كل الولاية للاستشارات الصحية وإجراءات الوقاية من الأمراض (مثل اللقاحات)، إلا أن مستشفى بوغرارة فؤاد الوحيد في الونزة، ينقصه الاختصاصيون والأطباء العامون. وتتم إحالة المرضى الذين يحتاجون إلى جراحة إلى مستشفيات أكبر وأفضل تجهيزاً في عنابة وتبسة، على بعد 150 و75 كيلومتراً على التوالي.13
نتيجةً لعجز الحكومات المتعاقبة عن توفيرالخدمات والوظائف في ولايات كالطارف والونزة، ومروحة أخرى من المناطق الحدودية، قام رواد أعمال من المجتمعات المحلية بملء الفراغ. ونادراً ما تشكّل حقيقة أن مثل هذا المشروع يستتبع ممارسة نشاط غير قانوني، وهو تهريب البضائع عبر الحدود، عقبة. فقد عزّزت الدولة البعيدة والمهملة الإحساس الحاد بالعزلة بين سكان المنطقة، وبالتالي لم يكن لها سوى تأثير ضئيل. لقد لخص أحد المهربين الشباب محنة المنطقة بالملاحظة التالية: “أين تقيم يعني الكثير. لقد عوقبنا هنا بالجغرافيا”.14
المناطق الحدودية والدولة الجزائرية
التهريب عبر الحدود الشمالية الشرقية قديم قدم الدولة الحديثة نفسها التي برزت إلى الوجود العام 1962.15 ومنذ ذلك الحين، انخرط رواد الأعمال من سكان المناطق الحدودية المهمّشة في التهريب ونسجوا شبكات لهذا الغرض. كان للعديد من هؤلاء الأشخاص أقارب يعيشون على الجانب الآخر من الحدود، في تونس، حيث يمكنهم الاعتماد عليهم كمحصول أوّلي لعملية الزبائنية. ومع الوقت، نمت هذه الشبكات على نحو كبير وشكّلت معاً أكبر رب عمل في المنطقة. وكما قال مهرّب أجرينا معه مقابلة في آذار/مارس 2019 في مداوروش: “الكل يهرّب هنا.. حتى النسوة.. إنها مسألة بقاء”.16
التهريب كمهنة أولى لا يشق لها غبار
تشمل السلع التي تُهرَّب من الجزائر إلى تونس الوقود، والماشية (خاصة الغنم)، وقطع السيارات، والنحاس، والإلكترونيات التي تصنّعها شركة كوندور الجزائرية، والعطور، ومستحضرات التجميل، واللبن الرائب، والحليب المجفّف، والبطاطا.17 بيد أن المعابر ليست باتجاه واحد: فالسلع المهرّبة إلى الجزائر من تونس منوّعة أيضاً وتشمل عجائن المعكرونة، وزيت الطبخ، والطماطم المعلّبة، والتبغ المنكّه، وأنابيب المياه، والموز.
أهم السلع المحظورة هي الوقود. في الجزائر، وهو بلد منتج للنفط، الوقود مدعّم، وسعر الليتر أقل ثلاث مرات منه في تونس. وهذا الفارق الصارخ يضمن ربحية لتهريب الوقود من الجزائر إلى تونس- إذ يكسب المهرّب ما بين 150 إلى 300 دولار في اليوم- ويشكّل 75 في المئة من النشاط الاقتصادي في المنطقة.18
على الجانب الجزائري من الحدود، يحصل المهربون على الوقود إما مباشرةً من محطة البنزين أو من شاحنات هي جزء من شبكة التهريب، ثم يُنقل الوقود إلى منازل تخزين في البلدة الحدودية أو قربها.19 بعدها بقليل يجري نقل الوقود بشاحنات بيك أب رباعية الدفع (مثل Toyota Hilux أو Mazda أو Isuzu D-Max) إلى مكان آمن بانتظار التسليم المتوقع على الحدود. هذه العملية تتضمّن “الكشاف” الذي يراقب تحركات الشرطة والحرس الوطني، والناقل (الحلاب) الذي ينقل البنزين إلى مرآب التخزين ثم لاحقاً إلى منزل آمن، والمهرب نفسه (القناطرية) الذي يستلمه ثم ينقله إلى الحدود.
ليس ثمة نقص في الطلب على الجانب التونسي، وهذا يعود أساساً إلى أن تونس لديها بدورها مناطق حدودية مفقرة يقطنها أناس لا يستطيعون تحمّل السعر الرسمي التونسي للوقود.20 يوضح هذا الموقف شاب في الخامسة والعشرين من العمر من ولاية القصرين، يشتري الوقود الجزائري المهرّب ويبيعه إلى مواطنين من موطن عائلته، على النحو التالي: “لدي شهادة جماعية، وليس لدي أي عمل آخر. نحن ستة أشخاص في العائلة، وكلنا عاطلون عن العمل. لدي إجازة جامعية بدرجة ممتاز، وعلى الرغم من ذلك انظروا إلي: أنا أبيع الغاز الجزائري المهرّب”.21
الملفت في المناطق الحدودية التونسية أن الثقافة والرموز الوطنية الجزائرية متغلغلة في المجتمع المحلي. وهذا ينطبق خصوصاً على القصرين، وهي المحافظة الأكثر تخلفاً في البلاد، والمكان الذي تُعتبر فيه المساهمة الجزائرية في الاقتصاد المحلي أمراً لا غنى عنه.22 مثلاً، يرفرف العلم الجزائري فوق الكثير من متاجر القصرين. وحين يحتج السكان المحليون على الإهمال الحكومي، يرفعون هذا العلم عالياً، لا بل ينشدون “قسماً”، وهو النشيد الوطني الجزائري
نادراً ما يدخل التونسيون والجزائريون إلى أراضي بعضهم البعض، على رغم أن هذه الظاهرة أكثر شيوعاً على الجانب الجزائري منها على الجانب التونسي. ووفق العديد من المهربين الجزائريين المنخرطين في تهريب الوقود، والمواد الغذائية، والنحاس، اعتاد التونسيون العبور إلى الجزائر لطرح طلباتهم واستئجار وسائل نقل.25 بيد أنهم توقفوا عن ذلك بعد أن أحكمت السلطات الجزائرية قبضتها الأمنية العام 2013.26 الآن، ينتظر التونسيون المهربين الجزائريين لتسليم الشحنة في نقطة يتم تحديدها مسبقاً، أو تكون أقل عمومية، على بعد خطوة من الحدود. وكما يقول مهرب جزائري من الونزة:
“إنهم لايعبرون، ونحن نادراً ما نعبر أيضاً. نحن اليوم نتحدث عبر الهاتف ونرتّب كل شيء. إنهم يخشون الدخول، لكننا أقل خوفاً من وطأ أراضيهم لأن السلطات التونسية ليست صارمة كما الجزائريين.. هنا، في الجزائر، إذا ما ألقي القبض علينا نخاطر بالسجن لسنة أو ثلاث سنوات، لكن في تونس تحبس لمدة 15 يوماً ثم تخرج”.27
معظم المهربين من الشبان الذكور، الذين ليست لديهم عملياً وسيلة أخرى لتأمين لقمة العيش وسد رمق عائلاتهم. في بعض الأحيان يكون هؤلاء عمالاً أكبر سناً قليلاً ولهم وظائف مشروعة بما في ذلك،وظائف الخدمة المدنية. هدفهم هو الحصول على شيء من المال لدعم دخلهم الضئيل. المثير هنا أن الأشخاص المنخرطين في النشاطات غير المشروعة لا يعتبرون أنفسهم مهربين، بل “رجال أعمال” أو “عمال”. وكما قال أحد هؤلاء في المريج، مشيراً إلى الدولة الجزائرية: “يطلقون على ذلك وصف التهريب! أنا أرفض هذا التعريف. أنا عامل شريف. أنا رجل أعمال ولست مهرباً!”28 وكرّر تونسي من القصرين الرأي نفسه:
“نحن عمال شرفاء. نحن لانتاجر بالمخدرات أو الأسلحة.. نحن أناس محترمون. فكروا معنا قليلا: من يمكن أن يحب رائحة البنزين طيلة اليوم، ويخاطر بالتعرّض إلى عقوبة السجن أو إلى الموت احتراقاً عند نقل الوقود. إذا اهتموا بي (أي إذا ما وفّرت الدولة التونسية فرص العمل) سأترك التهريب غدا”.29
هؤلاء المهربين، المدفوعين بغريزة البقاء، والمسلحين بمهارات الاتجار، والمستعدين دائماً وأبداً لإضفاء التبرير الأخلاقي على مايفعلون، يرفضون السماح للظروف برميهم في أحضان وضعية الضحية. إذ هم، بعد كل شيء، استغلوا المبادرة وانطلقوا لمحاولة التحكّم ببيئتهم، مهما كانت قاسية، من أجل توفير فرص اقتصادية.30 مع ذلك، إظهار مثل هذه القدرة على العمل بحرية غير كافية لضمان سلاسة مهمة المهربين. إذ هم نصف المعادلة على الأقل، ونجاحهم متعلّق إلى حد كبير بالعلاقة مع النصف الثاني من المعادلة: السلطات المحلية، خاصة مسؤولي الحدود.31 إضافة إلى ذلك، فإن تغاضي وتواطؤ مسؤولي الحدود الجزائريين في عمليات التهريب هما اللذان يخدمان، وإن بشكل غير مباشر، استتباع المهربين في شؤون الدولة.
المهربون ومسؤولو الحدود: علاقة غير متوقعة
مناطق الحدود هي المكان الذي تكون فيه سلطة الدولة الجزائرية أكثر من شكلية وأقل من تامة. فالتهريب الذي يجري كل يوم وعلى نطاق واسع يميط اللثام عن الحقيقة أنه حتى في بلد يحكمه نظام شبه سلطوي وله توجهات جاذبة نحو المركز، يكون التشظي بالفعل جزءاً من الحياة السياسية.32 والمفارقة هنا أن مسؤولي الحكومة متواطئون مع المهربين في مفاقمة هذا التشظي. أسباب هذه الظاهرة غير المتوقعة تنبع من الحقيقة أن الوقائع المحلية تنتصب في وجه المقاربة المانوية الشرعية/اللاشرعية للأمور. يعترف المسؤولون الحكوميون- في شكل السلطات المحلية ومسؤولي الحدود- بهذا الأمر، ونتيجةً لذلك، فإنهم على استعداد للتعاطي مع كيانات غير حكومية وإجرامية – من الناحية التقنية – في علاقة متواصلة.
لدى السلطات المحلية سببان للحفاظ على سياسة “دعه يعمل، دعه يمر” مع المهربين. الأول أن هذه السياسة تخدم كصمام أمان لتنفيس بعض الضغوطات الاقتصادية التي يشعر بها سكان الولايات الشرقية الجزائرية المهملة. وهذا يشمل مسؤولي الحدود ذوي الرواتب المتدنية الذين سيستفيدون من الرشى التي ينثرها المهربون. وبالتالي، فإن قمع التهريب – ناهيك عن وضع حد له – سيحرم عائلات بأكملها من شريان الحياة الاقتصادي ويثير الاضطرابات.
والسبب الثاني يتمثّل في الخدمة التي يقدّمها المهربون، كجزء من اتفاقهم الضمني مع السلطات، يبتعد المهربون عن المخدرات غير المشروعة (مثل الكوكايين والماريجوانا) والأسلحة. لكن الأهم من ذلك هو أنهم يقدمون تقارير إلى السلطات عن أولئك الذين يحاولون (وفي أغلب الأحيان الجهاديين) الاتجار بهذه السلع. هذه المعلومات لاغنى عنها لسلطات الأمن الجزائرية التي ينصّب تركيزها الرئيس على إبقاء الحدود خالية من العناصر الجهادية.
يبدو المهربون سعداء بالالتزام بهذه الإجراءات. وكما يقول أحدهم “الأعمال الجهادية سيئة على الأعمال التجارية”.33 وقد أدّى موقفه هذا، الذي يتشاطره مع العديد من زملائه، إلى تعزيز ثقة المسؤولين المحليين في ترتيباتهم مع المهربين. وأوضح وكيل الجمارك الجزائري ذلك:
“نحن نعرف المهربين، ونعرف ماينقلون. إنهم أناس طيبون يحاولون كسب لقمة عيشهم في منطقة قفر، ولايستطيعون وقف نشاطاتهم هذه لأن عائلاتهم حينها ستجوع حتى الموت. نحن نعرفهم ونعرف عائلاتهم لأننا، نحن أيضا، من هذه المنطقة… إنهم ليسوا خطرين، ولاينقلون أسلحة أو يساعدون الجهاديين على الحصول على أسلحة، بل العكس: فهم بطريقة ما يساعدوننا على حماية الحدود”.34
العديد من المهربين الذي أجريتُ معهم مقابلة خلال الإعداد لهذه الدراسة يقيمون علاقة ودّية ومنتظمة مع اثنين على الأقل من موظفي الجمارك أو أعضاء في سلك الدرك. وقد استخدم العديد منهم التعابير نفسها في وصف كيف “يشترون الطريق” من خلال القيام بـ”بادرات صغيرة” (بكلمات أوضح رشى) إزاء مثل هؤلاء المسؤولين. وبعدها يقوم هؤلاء بإبلاغ المهربين متى وأين يفتحون البطحة أو بعبارة أخرى “يفسحون المجال”. لتأكيد هذا المستوى من التواطؤ، ذهب العديد من المهربين إلى حد عرض دليل هواتفهم خلال المقابلات، مشيرين إلى أسماء مسؤولين أمنيين يسهلون عملهم، لا بل هم عرضوا الاتصال بهم. ووفق تعبير أحد المستطلعة آراؤهم:
“لدينا أرقام هواتفهم. نحن نعرفهم وهم يعرفوننا. نحن نتصل بـ”الفأر” (الوسيط بين المهربين والسلطات المحلية)، ونبلغه عن كمية ونوعية البضاعة. نقول له، على سبيل المثال، إن لدينا الليلة 20 حاوية تنقل الديزل و20 حاوية فيها وقود وأيضاً زيتون وسلع غذائية ونحاس. بعدها، يقوم الفأر بإبلاغنا عن الوقت الذي سيسمح لنا فيه رجال الجمارك بالمرور”.35
بفضل هذا التفاهم بين مسؤولي الحدود والمهربين، ليس ثمة احتكاكات ذات شأن بين الطرفين. لا بل سمحت السلطات المحلية في الواقع بازدهار التهريب،36 والدلائل على أن المهربين يعملون علناً متوافرة في كل مكان. على سبيل المثال، في مدينتي بئر العاتر وتبسة الجزائريتين، يتعرّف أجهزة الأمن إلى المهربين بالاسم. وفي تونس، على الطريق من تونس العاصمة إلى القصرين، نقاط توزيع البنزين المهرّب عبر الحدود من الجزائر واضحة للعيان.37 وعلى رغم التواجد المعزّز لكل من الحرس الوطني والشرطة المحلية التونسيين على طول هذا الطريق، لا تتخذ إجراءات ضد أولئك الذين يعملون أو يستفيدون من نقاط التوزيع هذه. يقول بائع جزائري للبنزين في إحدى النقاط: “لقد رأيت ذلك بأم عيني. حتى الشرطة تأتي إلينا لملء خزانات سياراتها. إنهم يتركوننا وشأننا لأنهم يعرفون أننا لسنا أشرارا، بل مجرد عمال ورجال أعمال… وإذا لم يفعلوا ذلك سينفجر الوضع هنا”
حدود السلطة المركزية
التفاعل بين السلطات المحلية والمهربين في الجزائر(وإلى درجة أقل في تونس) يطرح على بساط البحث والتدقيق جل الاعتقاد التقليدي حول مسألة السلطة المركزية في الدولة الوحدوية (المركزية الحديثة). قد يتم تعديل الحدود حسب الرغبة، وعلى أساس يومي، من خلال التواطؤ بين المسؤولين المكلفين بالمراقبة والجهات الفاعلة غير الحكومية المشاركة في مهمة غير قانونية. وهذا يجعل ترسيم الحدود مسألة نسبية.
في المقابل، فإن تنظيم التجارة، أحد صلاحيات الدولة، لا ينطبق على السلع المهربة عبر الحدود. إن مثل هذا التهريب الذي يشكّل معظم حركة الاتجار عبر الحدود، يسلّط الضوء على واقع فريد: إذ حين يأتي الأمر إلى الجزائر وتونس، يجري قلب المعادلة التي تستند إلى أن التجارة المشروعة يجب أن تفوق زميلتها غير المشروعة (وهي سمة أساسية من سمات الدولة الحديثة) رأساً على عقب.
مضاعفات هذه العملية المتواصلة من بناء الدولة، أو تطوير دولة مركزية في الجزائر، عميقة الأثر وبعيدة المدى. فمع سماح مسؤولي الحدود بالتهريب ونجاح المهربين في تبديد المخاطر الأمنية، فإن هذين الطرفين اللذين يفترض أنهما خصمان، يكمّلان بعضهما البعض. ومثل هذه “المأسسة غير الرسمية” للعلاقة غير المنتظمة بين المهربين وبين مسؤولي الحدود تسرّع تدخل الدولة في حياة المواطنين حتى وهي تتلاعب بسلطة الدولة.
علاوةً على ذلك، مع قيام السلطات المعنية بالتسامح، بل وتشجيع، المأسسة غير الرسمية كوسيلة لتحسين متطلبات اجتماعية- اقتصادية محلية بالكامل، يصبح المجال الحاسم لتوجهات الطرد المركزي أكثر سطوعا. أساساً، المناطق الحدودية لها الأسبقية على الدولة في كل المسائل عدا الآن، لا بل الواقع ليس من المبالغة في شيء القول أن المناطق الحدودية الجزائرية هي بلد قائم بذاته تقريبا.39
الآن، مع أن الترتيبات بين المهربين وبين السلطات المحلية أثبتت ديمومتها، إلا أن هذا لا يضمن أنها ستبقى على حالها إذا تدهور الوضع الأمني على حدود الجزائر مع تونس وليبيا. ففي السنوات التي أعقبت إطاحة النظام السلطوي للرئيس الأسبق زين العابدين بن علي (العام 2011)، وجدت الجماعات السلفية الجهادية مكانة لنفسها في المناطق النائية من البلاد، مثل المناطق المتاخمة للجزائر. وتمثّل العلاقة الوثيقة بين هذه الجماعات وبين مهربي المخدرات، إلى جانب إمكانية تركيز كل منهما على الجزائر، سيناريو كابوسي للسلطات الجزائرية.
مع ذلك، فإن قيام الحكومة بفرض إجراءات أمنية قاسية تحد من نشاطات شبكات التهريب، سيؤدي إلى طي صفحة صمام الأمان الضروري والحاسم لتنفيس الاحتقان الاقتصادي الذي يغشى عدداً لايحصى من العائلات في المناطق الحدودية. وهذا بدوره سيمزّق العلاقة الودية بين السلطات والمجتمعات المحلية. والحال أنه إذا لم تترافق الحملة على التهريب مع جهود ناجعة لتطوير المناطق الحدودية وبث الروح فيها، فستؤثر على الاقتصاد الموازي للمنطقة، وتؤدي على الأرجح إلى اضطراب اجتماعي. هذا علاوة على أن هذه الخطوة ستجبر المهربين أيضاً على العمل السري وتثبط الحوافز لديهم للعمل كعيون وآذان لمسؤولي الحدود المنوط بهم اعتقال الجهاديين ومهربي المخدرات. لا بل ثمة ما هو أخطر: فالحملة قد تدفع المهربين والجهاديين إلى أحضان بعضهم البعض، وهكذا تكون الدولة قد استولدت تهديداً أمنياً أكثر خطورة من ذلك الذي أرادت استئصاله.
خاتمة
تعي الحكومة الجزائرية أن من شأن فرض حل صارم يتمحور حول الأمن على المعضلة التي تواجه، أن يخلّ بالتوازن الاجتماعي والاقتصادي للمناطق الحدودية. ثمة “عقلانية البدائل” وراء منح المهربين مهلة للقيام بأعمالهم غير المشروعة.40 بعبارة أخرى، تدرك الدولة أن الجهات شبه المستقلة قد أنشأت نظاماً اقتصادياً أكثر انسيابية وفعالية من اقتصادها، وأنها تتمتع بنفوذ اجتماعي كبير. الإدراك الأكبر لدى الحكومة هو أنه على الرغم من الدفع المستمر منذ عقود نحو المركزية من جانبها وأسلافها، فإن الدولة لاتزال مجزأة. ونتيجة لذلك، يبدو أن القلق في الجزائر العاصمة تحول خلال السنوات الأخيرة إلى ضمان (على قدر ما يكمل المهربون ومسؤولو الحدود بعضهم البعض) أن التشظي المتفاوت الذي يشكّل الدولة يبقى على الأقل متسقاً وإن على تهدّل.
هذا التحول من جانب الحكومة يثير عدداً من الاحتمالات، اثنان منها واضحان: الأول، هو إقامة منطقة حرة مع تونس. سابقا، كان في وسع المهربين في آن القيام بنشاطاتهم علناً وعدم تجشّم الرسوم الجمركية، ما كان يزيل الحاجة إلى التجارة غير المشروعة. وفي الوقت نفسه، مثل هذه المبادرة قد تمكّن الحكومة من تكثيف نشاطها في المنطقة والحفاظ على الاتساق بين الجزائر العاصمة والمناطق الحدودية. ثمة احتمال آخر تقوم بموجبه السلطات المحلية- بموافقة الحكومة المركزية- بتعميق علاقاتها مع المهربين وزيادة انخراطهم في جهود الدولة لضمان الحدود. وهذا قد يتضمن بلورة أدوار مجزية في مجال المراقبة وجمع المعلومات. مثل هذا الحل يوفّر ميزة الاستمرارية بشرك أن تكون ثمة ترتيبات فعالة واضحة قيد العمل ويمكن لها أن تتحسّن قدما. بهذا المعنى، سيدشّن ذلك الحصيلة المنطقية للعلاقة المأسسية غير الرسمية بين المهربين والدولة، كما أوضحنا في هذه الدراسة.
المصدر :دالية غانم _ مركز كارنيغي