أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الإسلام ردود فعل غاضبة من الداخل الفرنسي، وأيضاً من الخارج، وسط ذهول عريض ليس فقط من المضمون الذي حمله تصريحه عن الإسلام، ووصفه بأنه يعيش أزمة داخلية، ولكن أيضاً من التوقيت الذي اختاره لإعلان هذا الموقف.
التوقيت يدعم التفسير الذي يميل إلى أنه يقصد بالإسلام الإسلام السياسي، وتعبيراته المختلفة في العالم، بل يقصد على وجه الخصوص التعبير الدولتي عنه، والذي يمثله النموذج التركي، الذي تعيش معه فرنسا هذه الأيام جولات من الصراع على أكثر من ملف، في شرق المتوسط وليبيا، وأيضاً على الجبهة الأذرية والأرمينية، فيكون مضمون تصريح ماكرون بهذا الاعتبار هو تصدير الأزمة الداخلية التي يعيشها جرّاء فشله في تدبير الصراع مع تركيا، وعجزه عن تعبئة الاتحاد الأوروبي ضدها، وذلك من خلال التأكيد على أنها تعيش أزمة في كل الجبهات التي تدخل إليها، وفي الوقت ذاته تنبيه الدول في المنطقة أن فرنسا لم تعد قادرة على تحمل وجود الإسلاميين في مربع الحكم، وأن خطوة إزاحة النهضة من الحكم في تونس ينبغي أن تتلوها خطوة أخرى، لإزاحتهم أيضاً من مربع الحكم في المغرب.
لكن، إلى جانب هذا التفسير، ثمة تفسير آخر، يتلبس بلبوس انتخابي وسياسي، يفسر تصريحه بكونه محاولة منه لخطب ود اليمين المحافظ واليمين الراديكالي، بعدما تأكد في الانتخابات الماضية ضعف نسبة شعبيته وخسارته لقاعدة عريضة من أصوات مؤيديه، وأنه بذلك يريد أن يقترض جزءاً من شعبية التيار اليميني المحافظ ويضمها إلى رصيده، لاسيما أن العديد من النخب في فرنسا تتخوف من تسارع وتيرة تصاعد اليمين المتطرف، وإمكانية وصوله إلى الحكم في فرنسا، وأن وجود قواعد هذا التيار إلى جانب إيمانويل ماكرون هو أفضل بكثير من بقائهم في المعسكر اليمين المتطرف.
بيد أن مشكلة هذا التفسير أن قواعد التيار اليميني المتطرف لا يمكن لها بهذه السلاسة أن تغادر مواقعها، لتؤسس مواقع حزب ناشئ وطارئ على الحقل السياسي الفرنسي، ينهار من تلقاء السياسات الارتجالية وغير المدروسة التي اتخذها، سواء في الداخل أو الخارج، وأن الرئيس الفرنسي ماكرون لم يكن أكفأ من قادة التيار اليميني المتطرف في حمل الشعارات المعادية للإسلام والمنددة بالهجرة والمواطنين الفرنسيين من أصول شرق أوسطية.
ثمة تفسير آخر لا يقل أهمية عن التفسيرات السابقة، ويربط هذه التصريحات بكونها تعبيراً عن تقدير الدولة الفرنسية للدور الذي يقوم به الإسلام والجماعات الإسلامية، والتهديد الذي يشكله على بنيانها ومبادئ جمهوريتها، وأن هذا التصريح في جوهره ليس إلا تعبيراً عن المخاوف التي حملها تقرير “صناعة الإسلاميين”، الذي تم تمويله من قبل الدولة الفرنسية، وحظي بكثافة في التداول، وأنه تمهيد لقرار فرنسي يتوجه لصناعة نموذج إسلام فرنسي، ترسم الدولة الفرنسية حدوده ومعالمه، وأيضاً مضمونه، وتكوّن موارده البشرية وتتحكم في جميع مخرجاته.
فالإسلام الذي يعاني أزمة داخلية، حسب التصريح الفرنسي، هو ما تفهمه فرنسا عن الإسلام، أو للدقة هو ما تريد العالم أن يفهم الإسلام عليه، بكونه يحمل أيديولوجية خطرة للمجتمعات الغربية، بسبب الرؤية التي يصوغها عن العالم، وبسبب تعارضها مع قيم المجتمع الغربي، وأن إنقاذ الإسلام من أزمته يقتضي تدخلاً للدولة لتكييف محاوره ومضمونه وطرق انتشاره وآليات ذلك وموارده المالية والبشرية، وذلك من خلال تنظيم جديد للإسلام، أو بث نموذج فرنسي للإسلام، يراهن على بث خطاب بديل للخطاب الإسلامي المبثوث حالياً في الغرب.
كثيرون في فرنسا يقرأون تصريحات ماكرون من هذه الزاوية، ويعززون تفسيرهم بمؤشرات كثيرة، منها حملات التضييق على المساجد، وسياسات ضبط تمويلها، وتكوين مواردها البشرية تكويناً فرنسياً، والتدخل حتى في تكييف مفردات الخطاب الإسلامي، والتحكم في تدريس اللغة العربية، وإنتاج خطاب مخالف للخطاب الإسلامي السائد في فرنسا وأوروبا، بما لا يتعارض مع القيم الغربية، وتكثيف حملات مراقبة دور العبادة والجمعيات الإسلامية، وتصنيف روادها استخباراتياً، والتضييق على تصرفاتها المالية، ومناهضة الإسلام السياسي بكل الوسائل المتاحة.
ومع استحضار هذا التفسير فإن القصد الأول والأخير هو مراقبة الجاليات المسلمة، ونزع صلاحية المسلمين من التفكير من داخل الإسلام، بل وقطع صلتهم بالمطلق مع مجتمعاتهم الأصلية، ومحاولة التحكم في صناعة نموذج جديد للإسلام، يجعل أوروبا مناهضة للإسلام السياسي، لا داعمة له من الداخل.
ومهما يكن التفسير فقد جرّبت اجتراح هذا النموذج مستودعات تفكير أمريكية مقربة جداً من الدوائر الأمنية والعسكرية مثل راند، وأنتجت ثلاثة مخرجات بحثية مهمة، انتهت في النهاية إلى فكرة إنتاج إسلام مدني ديمقراطي يروج للمفاهيم التنويرية المعتدلة في الإسلام، ووضعت آليات التنفيذ من خلال اقتراح تشكيل شبكات مسلمة معتدلة في العالم العربي والإسلامي، فضلاً عن اقتراح تحالفات بين مكونات مختلفة داخل المجتمع العربي الإسلامي من أجل مواجهة ومحاصرة التيار الأصولي، مستعينة في ذلك بالتجربة الأمريكية في مكافحة الشيوعية أثناء الحرب الباردة، لكنها لم تنجح في بلوغ هذه القضية، مع تحذيرها الشديد في الكتب الثلاثة التي أصدرتها، لاسيما كتاب الإسلام المدني الديمقراطي، بأنه لا مخاطر أن تظهر أمريكا بصورة المتدخل في الإسلام أو المستفز أو المواجه له، إلى الدرجة التي اقترح فيها مركز راند إبعاد العلمانيين بالمطلق عن خطة محاصرة الأصوليين، بسبب قناعتهم المعارضة للنص الديني، وأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى نتائج معاكسة.
المعضلة أن فرنسا إيمانويل ماكرون تعيد التجربة نفسها، لكنها تزيد عليها الوقوع في المحظور، وذلك من خلال توريط الدولة في مهمة التدخل في الإسلام وتكييف مضمونه بما يتناسب، ليس فقط مع القيم الغربية، ولكن بما يخدم الرهانات السياسية للنخب الحاكمة، وبما يضيق على التدين والحاجات الحيوية للمواطنين الفرنسيين، وتلك هي الخطيئة التي ستجعل ماكرون يعاني معضلة كبيرة، بل ستجعل فرنسا تدخل في صراع يضع نموذجها العلماني على المحك، ويقوّض تماسكها الداخلي، ويجعل بعضها في عداء مع بعض، وهو ما يحول الأزمة لفرنسا بدل أن تكون موجهة إلى الإسلام.