قالت لي ابنتي وأنا أتوسل إليها وأخيها أن يضعا جهازيهما جانباً 5 دقائق فقط: “اهدئي يا أمي، أنتِ تبالغين. مشاهدة التلفاز مُضرة بالقدر نفسه”. ثم تراني منفعلةً فتنظر إليَّ كأنني “حمقاء”، كما يفعل كل الأطفال في الـ12 من عمرهم.
أحاول إقناعها بأنَّ تصفُّح تطبيق إنستغرام بلا تركيز لساعات ليس مفيداً لها. وأوضح أن إمكانية الدخول على وسائل التواصل الاجتماعي بلا حدود أمر خطير؛ يشبه القدرة على تناول وجبات بيغ ماك بقدر ما تشاء وفي أي وقت: سينتهي بك الحال مريضاً وشاعراً بالخواء. وأنا أريد لابنتي أن تكون مدركة لما تُدخله إلى عقلها مثلما هي مدركة للطعام الذي تدخله جسدها. أدعو ذلك بـ”الوجبات التكنولوجية السريعة”؛ إذ إنها لا تحتاج العقل.
تُعد الوجبات التكنولوجية السريعة هي الاستخدام ذا القيمة الفكرية والتفاعلية المتدنية. وعادةً ما تأتي في هيئة “مُسليات” تكنولوجية جاهزة لا تطلب أي جهد إدراكي. وهي التصفح اللانهائي الذي يستمر كحفرة لا قاع لها. وهو أيضاً البث المتواصل للمحتوى السلبي، والسخافات المتعلقة بما تناوله الناس على الإفطار، والتحقق بنهَم من عدد الإعجابات والتعليقات وأشكال القبول من الآخرين، والذي يجعلنا جائعين للحصول على مزيد من المصادقة.
تقول آن إيتشيلز، مديرة مدرسة سانت آيدن الابتدائية في شمال لندن: “إنها تكنولوجيا سلبية (تُعطى) لأطفالنا”. تُدرس إيتشيلز منهجاً دراسياً في البرمجة خاصاً بالأطفال. ويتم ذلك في بيئة نشطة إبداعية تُناقض “الشكل السلبي الذي ينخرط الأطفال من خلاله مع التكنولوجيا خارج الصف الدراسي”، حسبما تقول.
وأوجه التشابه بين الوجبات السريعة والوجبات التكنولوجية السريعة كثيرة. إذ يستهدف كل منهما الفئة الأكثر هشاشة في المجتمع: الأطفال. ويمارس كل منهما الخداع؛ أحدهما من خلال الوجبات السعيدة والألوان البراقة، والآخر من خلال الأساليب المتقدمة مثل التصفح اللانهائي واختفاء الرسائل وخاصية التشغيل التلقائي. وكلاهما غارق في المال، إذ تُقدر قيمة قطاع الوجبات السريعة بـ648 مليار دولار، وتُقدر قيمة قطاع التكنولوجيا بـ5.2 تريليون دولار في نهاية هذا العام.
أما أوجه التشابه العاطفية وآثار كل منهما على الصحة العقلية فهي واضحة. إذ يؤدي تناول كثير من الأطعمة المُصنعة إلى زيادة احتمال الإصابة بالالتهابات المُرتبطة بالإصابة بالاكتئاب (خلصت دراسة أجراها باحثون بجامعة مانشستر متروبوليتان، إلى أنه من بين نحو 100 ألف مشارك في الدراسة، كان متبعو الأنظمة الغذائية الأكثر تسبباً في الإصابة بالالتهاب، أكثر عُرضة لأعراض الاكتئاب).
وبالمثل، فإن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يكون له تأثير ضار على الصحة النفسية. وخلصت دراسة أجراها باحثون بجامعة بنسلفانيا، إلى أن تقنين استخدام فيسبوك وإنستغرام وسناب شات إلى 10 دقائق فقط يومياً، كان له أثر واضح في تقليل الشعور بالوحدة والاكتئاب. وفي الوقت نفسه أظهر بحث أجري في كلية لندن الجامعية، أن 38% من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة (ما لا يقل عن 5 ساعات يومياً)، أظهروا علامات دالة على إصابتهم باكتئاتٍ أكثر حدة.
لكن ما لا يتشابهان فيه هو أن الحرب على الوجبات التكنولوجية السريعة حرب خفية. إذ خلافاً للآثار الواضحة تماماً للأطعمة السريعة، ليس في وسعك أن ترى الآثار الضارة للتكنولوجيا في الدماغ. وما يزيد صعوبة الأمر هو أن المسؤولين عنها مختبئون إلى حد كبير عن أعين الحكومات والجماهير. وفي حين تُتاح مكونات قطع الدجاج أمام الجميع، لا يتم التصريح علناً بالخوارزميات والأبحاث الكامنة خلف تصميم الخصائص التي تُشجعنا على إدمان تلك المنصات.
يصف تريستان هاريس، خبير سابق في أخلاقيات التصميم لدى جوجل، مديريه السابقين بأنهم أشبه بـ”فرانكنشتاين رقمي”، ويوضح كيف يكتسحون نقاط ضعفنا الإنسانية. وفي الفيلم الوثائقي The Social Dilemma، يوضح هاريس كيف أن بعض خصائص التصميمات، مثل السَّحب المستمر إلى أسفل وخاصية تحديث الصفحة على كثير من تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، تستمد أصولها من قطاع القمار، وأنها تُستخدم في آلات القمار المُصممة لجعل الناس تعاود الرجوع إليها.
إذن ماذا يمكن أن نفعل للابتعاد عن الوجبات التكنولوجية السريعة؟ تقول هنريتا بودين جونز، مديرة المركز الوطني لاضطرابات الألعاب الإلكترونية، الذي يُقدم العلاج للمُصابين به من عمر 13 إلى 25 عاماً: “ينبغي أن تكون الحلول مُدمجة في التكنولوجيا. نحن في طريقنا إلى عدم القدرة على لوم الأفراد على إدمانهم التكنولوجيا أو الألعاب الإلكترونية، خاصة إذا كانوا ضعفاء”.
تشمل بعض الأفكار تصميم آليات داخل الأجهزة أو المنصات تجعلها تنطفأ آلياً بعد ساعتين من الاستخدام، أو محفزات تزيد صعوبة الاستمرار في إنفاق المال للبقاء داخل التطبيق. لكن المشكلة هي أن شركات التكنولوجيا تخضع لنموذج واسع مُصمم لجذب انتباهنا أكثر، من أجل البيع للمعلنين. ومن شأن تصميم منصات تُقنن وقت استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أن يتعارض مع هذا النموذج.
لا توجد هيئة رسمية تمارس الرقابة على قطاع التكنولوجيا، ومن الواضح أن الرقابة الذاتية غير نافعة هنا. ويمكن كبداية، تحصيل 1% من ميزانيات البحث والتطوير في كل شركات التكنولوجيا (أنفقت Alphabet، وهي الشركة الأم لجوجل، 26 مليار دولار على البحث والتطوير في عام 2019)، واستخدام إجمالي المبالغ المجمعة لتمويل الأبحاث المستقلة والعيادات الخاصة بالصحة النفسية مثل التي تديرها بودين جونز.
كما أود أن أرى في جميع المدارس مراقباً مختصاً بالتعاطف والتكنولوجيا، يتركز عمله وخبرته على علاقة أطفالنا بالتكنولوجيا، وسيكون دوره توعية أطفالنا بكيف ومتى يتم التحايل عليهم، وكيف يعرفون أساليب القرصنة التي قد لا يُدركها طفلك البالغ 12 عاماً (الحقيقة هي أن الآباء غير قادرين على معرفتها أيضاً).
وستحتاج كل تلك المبادرات الوقت وممارسة الضغط. لكن هناك طرقاً للتحكم في استخدام أطفالنا للتكنولوجيا اليوم. ويمكن كبداية، الدخول على المنصات التي يستخدمها أطفالك لتفهُّم كيفية عملها. كما أنه من المهم أن تبدأ في التناقش معهم بشأن ما يغذّون به عقولهم.
حتى بيل غيتس وستيف جوبز حدَّدا لأطفالهما أوقاتاً لاستخدام الأجهزة الرقمية؛ وهو أفضل دليل على أن علينا فعل ذلك أيضاً. وتماماً مثلما لا نسمح لأطفالنا بتناول 10 وجبات بيغ ماك يومياً، لماذا نسمح لهم بقضاء 10 ساعات في التحديق بشاشات أجهزتهم؟
هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية.