الشاب حسني ما زالت قصة اغتياله غامضة حتى بعد مرور 26 عاماً.. قصة المغني الشاب الذي قلب الجزائر بأغاني الراي
“وكاتبة يا مي لحنينة كاتبة… من عند الله كاتبة…” الشاب حسني
كم كان عمري حينها، ثلاث سنوات، نعم ثلاث سنوات، يوم حدث ذلك، ينزل حسني من سيارته وسط حيّه، يخرج شخصان أو ثلاثة أشخاص -روايات مختلفة- فجأة بينما حسني برفقة أخيه، يقترب أحدهم يعانق حسني ثم يخرج مسدساً أوتوماتيكياً ويوجه رصاصة إلى قلب حسني وأخرى إلى رأسه، كأنه يريد له الموت ولا شيء غير ذلك، ويقع صاحبنا أرضاً مخضباً بدمائه ويسقط أخوه من هول الصدمة مغشياً عليه.
ليس مشهداً سنيمائياً ولا عرضاً مسرحياً، إن الأمر حقيقي، حقيقي إلى أقصى درجة.
حسني الذي غنَّى للكل
التاسع والعشرون من سبتمبر/أيلول سنة 1994، يوم الخميس، عند الظهيرة، هذا التاريخ الذي يعرفه كل جزائري، ويحفظه المغربي والتونسي والليبي أيضاً، ففي هذا اليوم قُتل الشاب حسني.
ولد الشاب شقرون حسني في مدينة وهران، في الأول من فبراير/شباط سنة 1968، وهناك قضى الشاب معظم حياته متنقلاً بين منزله الكائن بأشهر أحياء
مدينة وهران الجزائرية وباقي أحياء المدينة.
“قمبيطة”، هذا الحي الذي شهد ولادة نجمنا ومقتله، أيّ حظ هو هذا الذي يمتلكه هذا الحي كي يشهد ولادة نجم وانفجاره، إنه حدث لم يكن باستطاعتنا مراقبته آنذاك لضعف التكنولوجيا، لكن الحي رآه وحضره.
لا أعرف متى عرفته ومتى أحببته، هل حبه لكرة القدم وحبي لها جمعنا مثلاً؟! لقد أحب حسني كرة القدم، وكان ضمن أحد فرق المدينة، لكن الإصابة حالت بينه وبين حلمه بأن يصبح لاعباً محترفاً، كأن الإصابة تريدنا أن نستمتع بصوته لا بمهاراته في مداعبة الكرة.
كانت ومازالت موسيقى الراي -لا نقصد تلك التي اشتهرت هذه الأيام- تمثل نبض الشارع ونبض الإنسان المغربي والجزائري خاصة، فالجزائر مسقط رأس الراي وفنانوها رواده، لكن كل فناني الجزائر في كفة وحسني في كفة أخرى.
الظهور الأول
تروج بعض الأحاديث عن أن صعود الشاب حسني إلى المنصة لأول مرة يعود فيه الفضل إلى فنان آخر، ألا وهو الشاب خالد، لكن ما نعرفه أن الشاب حسني ظهر في البداية كمغنٍّ شعبي يُحيي الأعراس، وكعضو في إحدى الفرق الغنائية المحلية.
لقد قُدم الشاب حسني مع ظهوره بكونه قنبلة الموسم، لكنه لم يكن قنبلة عادية، حسني قنبلة نووية انفجرت قبل أن ترتطم بالأرض، انفجرت في الهواء دون الحاجة إلى الاشتعال، كان صوته الشعلة والأكسجين والتفاعل واليورانيوم وكل أسلحة الدمار الشامل، حين غنى حسني لم يتوقف. حين انفجر ملأ الأجواء رومانسية وفاح شذى صوته، فكنت لا تسمع إلا هو، كان ينافس العالم دون أن يتجاوز العشرينيات. لم يكن باستطاعتك أن تتغافل عن كلماته ولا ألحانه، فحسني يغني من أجلك أنت، وحسني يغني للجميع دون استثناء.
تحكي أمه أنه كان يتلقى رسائل كثيرة يرسلها المعجبون، وضمن هذه الرسائل قصص غرامية وملاحم أبطالها معجبون، يتمنون أن يسمع حسني شكواهم وأن يحولها إلى أغانٍ تخفف عنهم ألم الفراق.
تألم حسني هو الآخر فقصة حبه مع فتاة مدينة ليون الفرنسية “مليكة” لم تُكلل بالنجاح رغم زواجهما، فأضحت قصة حبه موضوع أغانيه فغنى “ما زال كاين l’espoir” وغنى “طال غيبك أغزالي”، هذه الأغنية التي حققت نجاحاً باهراً حينذاك، وغنى “الزرقة ينا حبك رشاني” و”عمري عمري ما ظنتك تنسيني”.
غنى حسنى وأنتج ابتداءً من 1986، أي حين كان في العشرين ربيعاً، قفز الشاب حسني من مغني الحفلات والأعراس إلى مغنٍّ ينتج ويحيي الحفلات، ففي ظرف وجيز أضحى حسني المغني رقم واحد في الجزائر. لقد ذهب إلى الحد الذي أصبح فيه ينتج ألبومين في يوم واحد، ألبوماً للصباح وآخر للمساء، لقد كان أمراً عجيباً، أبدع حسني كما لم يبدع شخص آخر في الجزائر. بلغت أغانيه حوالي 600 أغنية وعدد ألبوماته 102. كان شيئاً خارقاً مقارنة بصغر سنه. كان أمراً خارقاً ومحزناً في نفس الوقت، فحسني الذي غنى للحياة وللأخوة وللصداقة، وحسني الذي عرف عنه حب الجميع والعطف على الفقراء والمساكين، وحسني الشخص البشوش يسقط جثة هامدة. شهرته تسببت في مقتله.
رجل تنبّأ بموته
قبل ذلك بمدة، وتحديداً في 1991 شاعت الأخبار عن موت حسني في حادثة سير، وما إن وصلت إلى حسني اتجه إلى بيته ليجد الحشود تسأل وتستقصي حول الأمر، وهنا غنى حسني أغنيته الشهيرة “حتى الميومة دهشت وبكات… قالوا بلي حسني مات”، شكلت الشائعة بالنسبة لحسني صدمة حقيقية، فهو يتساءل كيف لهؤلاء أن يتمنوا موتي، ألم أُحب الجميع، ألم أغني لهم، لماذا يريدون موتي؟
وأنا بدوري أتسأل مع حسني لِمَ قتلوه؟ لِمَ أرادوا له هذه النهاية؟
إن الإجابة تكمن في التاريخ وحده، فالفترة التي قتل فيها حسني تعتبر فترة ظلام بالنسبة للجزائريين، سنوات سوداء لن ينساها الشارع الجزائري، فبعد أحداث 1988 والمظاهرات التي خرجت ظهر للعيان حزب سياسي إسلامي جزائري سُمي “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”؛ أنشئ أوائل 1989 وخاض الانتخابات البلدية 1990 والتشريعية نهاية 1991، واكتسح نتائج شوطها الأول (حصل على 188 مقعداً من أصل 228 في المرحلة الأولى). فأوقف الجيش العملية الديمقراطية، وفعل أكثر من ذلك، إذ تم حل الحزب سنة 1992. الأمر الذي لم يتقبله الشارع، فانطلقت أعمال العنف التي استمرت لسنوات طوال راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء.
في هذه الظروف أحيا حسني سهرة غنائية احتفالاً بذكرى الاستقلال بملعب “5 جويله” في العاصمة، وكانت هذه السهرة آخر سهراته. فبعدها اغتيل على يد مجهولين كما بيّنا سابقاً.
من استثمر مقتل حسني؟
حتى لو عدنا للتاريخ فلن نجد إجابة شافية ليظل مقتله لغزاً شأنه شأن مقتل الفلسطيني ناجي العلي. قيل إن من قتلته ينتمون للجبهة، وقيل إن الجيش من دبر هذه العملية كي يلصقها بهم.
إن الأمر غامض بعض الشيء، والغريب رغبة القاتل في قتله، وثانيها أن الأمر محكم التنفيذ، وهذا ما يجعل قصة العسكر ضعيفة بعض الشيء، ثم هل الجبهة غبية لهذه الدرجة كي تغتال حسني؟ وهل أراد الجيش توريط الجبهة كي يقلب عليه الطاولة؟ هل كان حسني طعماً؟ هل كان حسني ضحية صراع سياسي؟ لم لم يفكر في إمكانية استغلاله في هذا الصراع؟ هل دفع ثمن شيء لم يرتكبه؟
معطيات جديدة
قبل مدة ومع عزل الرئيس بوتفليقة وإلقاء القبض على مجموعة من رجالاته، تناقلت صفحات فيسبوكية بالجزائر عديداً من معطيات تم وصفها بـ”الحقائق”، تشير إلى أن الجنرال توفيق كان وراء جريمة قتل ملك الراي الشاب حسني.
الجنرال توفيق
وأوضحت هذه الصفحات الفيسيوكية الجزائرية أن الجنرال توفيق هو من أمر شخصين من أفراد فرقة “الجيا JIA” بقتل المرحوم شقرون حسني، مشيرة إلى أن منفذ عملية اغتيال الشاب حسني يدعى ولد الرومية الساكن برأس العين آنذاك، رفقة زميله عبدالصامد الساكن بمنطقة الحمري.
معلومات مثل هذه لا يمكن التأكد منها ولو أنها تُضاف لمجموعة من الدلائل التي توحي بوجود مخطط محكم كان هدفه آنذاك القيام بعمليات اغتيال واسعة لفرض السيطرة ومثل هاته العمليات لا يقوم بها إلا المخابرات في غالب الأمر، أو بعض الرجال المقربين من السلطة وطبعاً المافيا.
ومما لا شك فيه أن هناك من استفاد من موت حسني، هؤلاء راهنوا على قضيتين، تنويم الشعب من جهة وإلقاء اللوم على الفريق المعارض من جهة أخرى.
وقد نجح هؤلاء من مسعاهم بالفعل فاغتيال حسني كان بمثابة الكارثة آنذاك لا للجزائريين فقط بل للكل، فكما قلنا سابقاً حسني ليس بذاك الشخص الذي يحشر أنفه في أمور السياسة، ولا هو ذاك الشخص الذي يربي العدواة ويصنع الضغائن بالعكس. لهذا شكل اغتياله صدمة حقيقية، ولعل الشعب الجزائري قد ينسى ما فعله الجيش بالجزائريين من تقتيل وقطع للأطراف ولكنه لن ينسى لحظة اغتيال حسني.
اغتيال الشاب حسني بقي لغزاً ليومنا هذا شأنه شأن لغز اغتيال الفلسطيني ناجي العلي والرئيس الجزائري بوضياف وغيرهم كثير.
سنتذكر حسني دائماً
حدث أن رحل الشاب حسني، لكن صوته مازال يتردد، وسيظل كذلك حتى آخر لحظة، سيذكرنا بالطفولة بحب الشباب، ورسم الشوارب بالحبر كما يقول مريد البرغوثي في قصيدته “الشهوات”، “سيطول السهر مع حسني، سنندم مع راني” ندم على الأيام” وسنتفائل مع “راه مزال كاين l’espoire”. سنفرح تارة ونحزن كلما تذكرنا مقتله. سنتذكره جميعاً، لن ننسى حسني الفتى المغدور.