التونسي مهدد بالعطش .. ضرورة التصدي لمشروع مجلة المياه

 

لا زال مشروع القانون الأساسي المتعلق بإصدار مجلة المياه محل جدل ارتقى اليوم الى مستوى صراع ومعركة حقيقية بين قوى وطنية تعمل على تكريس ما جاء في دستور البلاد لسنة 2014 والمتمثل في ضمان الدولة لحق المواطن في الماء من جهة، وبين قوى لا وطنية تعمل على ضرب هذا الحق من خلال تمرير مجلة مياه تكرس خصخصة الخدمات المائية والتفويت فيها للقطاع الخاص المحلي والأجنبي، ومن خلال الإبقاء على النموذج التقليدي المركزي للحوكمة.

وعلى غرار جميع مشاريع القوانين التي مررتها حكومات ما بعد انتخابات سنة 2014 وخاصة حكومة الشاهد بطريقة تعتمد التضليل والتعتيم على الرأي العام الوطني بخصوص حقيقة هذه المشاريع التي تندرج في اطار ما يسمى بالإصلاحات الهيكلية التي تعهدت بها الدولة التونسية تجاه صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والرامية الى رفع احتكار الدولة عن جميع المجالات الاستراتيجية والحيوية وتخليها عن هذه القطاعات عبر اليات الخصخصة والتفويت في المؤسسات العمومية لفائدة الشركات العالمية بمقتضى عقود الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص وعقود الامتياز وعقود اللزمة.

وفي هذا السياق نذكر بالقانون عدد 12 لسنة 2015 مؤرخ في 11 ماي 2015 يتعلق بإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة الذي رفع احتكار الشركة التونسية للكهرباء والغاز في مجال انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة لفائدة الشركات الخاصة، ويأتي مشروع القانون الأساسي المتعلق بإصدار مجلة المياه في نفس السياق.

فقد عرفت مجلة المياه مراجعات عديدة استكملت نسبيا بعد صدور القانون عدد 47 لسنة 2019 مؤرخ في 29 ماي 2019 المتعلق بتحسين مناخ الاستثمار والذي يعتبر الإطار القانوني لتحرير قطاع الخدمات بما في ذلك الخدمات المائية التي أصبحت اليوم وبمقتضى هذا القانون خاضعة للخصخصة والتفويت عبر عقود الامتياز وعقود اللزمة.

ولئن لا يزال الصراع قائما في مستوى نموذج الحوكمة، يبدو أن القوى اللاوطنية قد نجحت في اقرار خصخصة الخدمات المائية بكل سهولة وبطريقة ناعمة لم تجلب لها الاهتمام بفضل سياسة التضليل التي تحولت الى طريقة عمل داخل الإدارات التونسية بعد الثورة وذلك بعدم استعمال المفاهيم والمصطلحات ذات العلاقة بالخصخصة والتفويت والشراكة.

ولئن اعتبر الفصل 4 من العنوان الأول، حسب ما جاء بنسخة 29 جويلية 2019 لمشروع القانون الأساسي، أن الماء ثروة طبيعية وطنية من جهة، وأن هذا الملك العمومي للمياه غير قابل للتفويت حسب الفصل 5 من نفس المشروع، فان هذا الأخير قد أقر بطريقة واضحة ولكن غير مصرح بها بتحرير الخدمات المائية المتمثلة في جميع الخدمات المتعلقة بتزويد الماء الصالح للشرب، وجميع الخدمات المتعلقة بالتطهير، وفتحها أمام القطاع الخاص بمقتضى العنوان الخامس الذي جاء تحت عنوان الاستعمالات والخدمات العمومية في قطاع المياه والاقتصاد فيها، حيث نص الفصل 61 على: «تعتبر خدمات عمومية ذات أولوية كل الأنشطة المتعلقة بتوفير الماء الصالح للشرب والتطهير وتؤمن الذوات المعنوية العمومية أو الخاصة مختلف استعمالات المياه”.

ويظهر من خلال الصيغة المتبعة أن الجهة التي تولت صياغة أو كتابة العنوان الخامس تعمدت عدم الإشارة الى الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه “الصوناد” المعنية بكل الخدمات المتعلقة بتزويد الماء الصالح للشرب، والاشارة للديوان الوطني للتطهير المعني بكل الخدمات المتعلقة بالتطهير، تجنبا لإثارة الاهتمام وامعانا في تضليل الراي العام الوطني من جهة، ولضمان تمرير المشروع من جهة ثانية، وفي اسرع وقت ممكن خاصة في غياب المحكمة الدستورية باعتبار أن هذا العنوان الخامس فيه ضرب صارخ للدستور في الباب المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والذي بمقتضاه أصبح الماء حقا دستوريا حيث أظهرت كل التجارب التي خاضتها عديد البلدان النامية في مجال خصخصة الخدمات المائية من خلال عقود الامتياز أو عقود اللزمة، المنصوص عليها بالعنوان الرابع من المشروع، عجز عدة فئات اجتماعية عن دفع فاتورة الماء بعد ارتفاع الأسعار مما أدى الى اندلاع مظاهرات وحركات احتجاجية تطالب الدولة بحق المواطن في النفاذ الى الماء بأسعار معقولة لا تخضع لقانون السوق ولا لمصالح الشركات الخاصة والعالمية التي دخل عدد منها اليوم الى السوق التونسية وهو ينتظر في صدور المجلة الجديدة للمياه للاستحواذ على كل الخدمات المرتبطة بما سماه المشروع “الملك العمومي للمياه” بعد استحواذه على شمسنا وتحويلها الى كهرباء.

ولعل ما يعمق تهديد التونسيين بالعطش وبانعدام العدالة في النفاذ الى الماء، هذا الصراع القائم اليوم، وفي اللحظات الأخيرة قبل تحويل النسخة النهائية الى مجلس نواب الشعب، بخصوص نموذج الحوكمة المقترح.

ففي الوقت الذي تفترض فيه الحوكمة الرشيدة الابتعاد عن الحوكمة التقليدية التي تقوم على مركزية القرار مقابل إرساء الفصل بين الوظائف الثلاث المتمثلة في التخطيط، والتصرف في الخدمات المائية، والتعديل، في مؤسسات ثلاث منفصلة، من بينها هيئة تعديلية مستقلة، بما يضمن حق المواطن في الماء وحماية ديمومة الموارد المائية وحماية النجاعة الاقتصادية للمرافق العمومية وتحييد هذه المرافق العمومية عن السلطة السياسية والمصالح السياسية، تضغط أطراف عدة نحو الغاء ما يسمى بالهيئة

العمومية المستقلة وتعويضها بلجنة تعمل تحت اشراف مجلس وطني للمياه يكون تحت أشراف الوزير المكلف بالمياه عوضا عن مجلس أعلى للمياه يكون تحت اشراف رئاسة الحكومة.

ولعل ما يعمق هذا التخوف من استغلال السلطة السياسية لموقعها، وفي هذا السياق وزارة الفلاحة، ما صدر عن وزيرة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري عاقصة البحري بمنحها بتاريخ 20 جانفي 2021 ترخيصا لحفر بئر عميقة لصاحب نفوذ في القطاع البنكي (ف ب ت) متجاوزة رأي اللجنة الفنية الرافض بسبب استنزاف الموارد المائية بالجهة رغم الطلبات العديدة من قبل الفلاحين المباشرين والتي تم رفضها استنادا الى معايير فنية.

 

بقلم جنات بن عبد الله

Comments are closed.