مشروع ميساء وفريقها مصمم وفق خواص كثافة وارتفاع النخل مع سرعة التنفيذ وبتكاليف أقل بـ30% من التخصيب اليدوي
انطلقت فكرة تطوير طائرات مسيرة بقصد استغلالها في تخصيب أشجار النخيل، من محادثة بسيطة جمعت أحد فلاحي محافظة قبلي جنوب تونس بالطالبة التونسية ميساء كرشود من المدرسة الوطنية للمهندسين بالمنستير. هذه المحادثة البسيطة مع فلاح يشتكي من نقص في المحاصيل نتيجة عدم توفيقه في تخصيب جزء من بستان النخيل الذي يملكه، التقطها ذهن ميساء المتوقد وحولها إلى مشروع متطور.
وتعتبر عملية تخصيب النخيل إحدى المعضلات التي يواجهها سنويا منتجو التمور في تونس، إذ تتم -إلى يومنا هذا وفي أغلب الحالات- بطريقة يدوية، يقوم بها عمال مختصون في “التذكير”، يجيدون تسلق أشجار النخيل الشاهقة. ونظرا لما يكتنف هذه العملية من مخاطر، وموسمية هذا النشاط الذي يبدأ في فصل الربيع ويمتد إلى شهرين، فإن اليد العاملة المختصة تتسم بالندرة وأحيانا قلة الكفاءة والدراية.
بدعم من برنامج “ستودنت فور تشينج” (Student 4 Change)، وبإشراف السفارة الأميركية في تونس، أطلقت ميساء على مشروعها اسم “درو بي” (Dro Bee)، وفازت عنه بجائزة مالية قدرها 2500 دولار ستوجه إلى توفير التقنيات والقطع واللوحات الإلكترونية الضرورية لتطوير طائرات مسيرة أكثر فعالية وتطورا تقنيا وبكميات أكثر، بعد أن تمكنت هذه المهندسة الشابة وفريقها من تصنيع النموذج الأول بنجاح.
الحاجة أمّ الاختراع
اعتمدت ميساء في طرح فكرة مشروعها على البحث الميداني المعمق، وأولت مرحلة دراسة الاحتياجات وتقييم العراقيل التي يواجهها منتجو التمور في الجنوب التونسي أهمية قصوى، نظرا لتشعب الميدان وغرابته بالنسبة لطالبة هندسة تنتمي إلى مدينة ساحلية، وبالتالي فان عالم النخيل والغابات والتخصيب لا يتوافق مع إطارها المعرفي والثقافي، مما جعل فترة دراسة الجدوى تأخذ حيزا زمنيا مهما من وقتها.
وتقول ميساء في هذا الصدد “إن فكرة تطوير تقنية لتخصيب النخيل مرت بتصورات متعددة ومختلفة كل الاختلاف، إذ بقطع النظر عن استخلاص حاجة الفلاحين الماسة إلى إيجاد حلول فعالة لتخصيب النخيل وتجاوز هذه الصعوبة الموسمية التي تلقي بظلالها سنويا على الفلاح، فإن السؤال الأكثر أهمية تعلق بإيجاد التقنية الملائمة التي تعوض الإنسان مع ما يلزمها من توفير للنجاعة المطلوبة.
وتضيف المهندسة الشابة للجزيرة نت أنها ولضرورات مرحلة البحث، التقت بأكثر من 100 فلاح ومنتج تمور عن طريق الزيارات الميدانية للجنوب التونسي، وهو ما أتاح لها فرصة دراسة الخاصيات الجغرافية للواحات، كما أنها كانت لا تتوانى عن حضور المعارض الفلاحية والفعاليات التي تنظمها الهياكل (المؤسسات) المعنية بإنتاج التمور، للاحتكاك بأهل الميدان والتعرف على التقنيات المتوفرة وحاجيات السوق.
وتجدر الإشارة إلى أن برنامج “ستودنت فور تشينج” يوفر حوافز مالية لتغطية المصاريف المتعلقة بالتنقل والبحث لفائدة المشاريع المتميزة التي يقع اختيارها ضمنه، إذا علمنا أنه يتوجه حصريا إلى جمهور الطلبة الذين يرغبون في بعث مشاريع ذات صلة بمجالات التطوير والتسويق، والذين تعوزهم في أغلب الأحيان الإمكانات المادية للمضي قدما في مشاريعهم الخاصة في مجال الأعمال.
المرور إلى التنفيذ
استقر الاختيار المبدئي لحل مشكلة تخصيب النخيل على تصميم روبوت متسلق لأشجار النخيل، مجهز بتقنيات تتيح له القيام برش طلع النخيل، ولكن الحسابات المتعلقة بعامل الوقت والنجاعة المنتظرة منه جعلت ميساء تتراجع، ليستقر قرارها في مرحلة أولى على “تصنيع” الطائرة المسيرة تصنيعا كاملا يتلاءم مع بيئة غابات النخيل التي لا تتيح تحليقا حرا، نظرا لكثافة الأشجار، ثم تجهيزه بلواقط وآليات أخرى.
هذا التغيير في الرؤية والتصور للمشاريع يعود في الأساس -بحسب هارون وناس منسق مشاريع برنامج “ستودنت فور تشينج”- إلى التأطير المتواصل المبني على قواعد علمية ترتكز على توجيه الباحثين الشبان دون إعطائهم حلولا في قوالب لأفكار جاهزة، إذ إن الأهمية تكمن في إيقاظ أذهانهم ودفعها لقراءة مشاريعهم المستقبلية من زوايا مختلفة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي والاختراع.
ويضيف وناس للجزيرة نت أن ما يميز مشروع ميساء هو أنه مشروع تخرج وانخراط في الحياة المهنية في ذات الوقت بالنسبة لها وللفريق الذي انضم إليها، إضافة إلى أنه يندرج ضمن ما يسمى “صناعة المعدات التكنولوجية”، وهو مجال صعب نسبيا يختلف عن صناعة البرمجيات والتطبيقات، مما جعل من مشروع تخصيب النخيل بالطائرات المسيرة دمجا ناجحا بين صناعة المعدات والذكاء الاصطناعي.
مشروع “درو بي” الذي طورته ميساء وفريقها يتميز بالدقة في التعامل مع المجال الجوي والفضاء الخاص بواحات النخيل، إذ إنه مصمم خصيصا وفق خاصيات كثافة وارتفاع النخل، إضافة إلى الدقة في رش الطلع التي تسمح بتوفير كميات هامة منه نظرا لارتفاع أسعاره، كما يمكن له التمييز بين “بطون النخل” الملقحة من غير الملقحة، مع سرعة في التنفيذ بتكاليف أقل بنسبة 30% من التخصيب اليدوي.
العراقيل والآفاق
تبدي ميساء تخوفها من العراقيل الإدارية المتعلقة بقوانين استخدام الطائرات المسيرة في تونس أكثر من تخوفها من تفاعل الفلاحين ومنتجي التمور مع مشروعها، وتقول في هذا السياق إن جلب بعض القطع الإلكترونية من الخارج تطلب الكثير من الوقت والتراخيص، وهو ما اضطر وزارة التعليم العالي للتدخل أحيانا مما عطل إنجاز بعض المراحل لفترات متلاحقة، وتأمل في أن تتطور القوانين والإجراءات بهذا الشأن.
يذكر أن وزارة النقل التونسية أعلنت في فبراير/شباط 2021 عن مشروع حكومي يهدف إلى ضبط القواعد الفنية المنطبقة على الطائرات المسيرة، والشروط المتعلقة باستغلالها، وذلك في إطار مواكبة التطور التكنولوجي في مجال الطائرات المدنية الموجهة عن بعد، ودفعا لفرص الاستثمار والتجديد وفقا لمتطلبات السلامة.