لا يعرف الشعب التونسي الكثير عن المكلفة بتشكيل الحكومة، من قبل الرئيس قيس سعيد على أساس “الأمر الرئاسي”عدد 117 المعدّل للدستور، نجلاء بودن، فهي تكاد تكون مجهولة، وغير معنية بالشأن العام، اذ لم نسمع لها مواقف عامة في القضايا الوطنية على امتداد سنوات، وهذه أوّل المفارقات التي جعلتها تحظى بمقبولية أوّليّة الى حدّ الآن.
فمن ناحية هي غير معلومة لدى الرأي العام، وغير مساهمة بشكل عمومي في قضايا المواطنين، وهذا ما لا يجعلها مؤهلة لشغل أحد أهمّ المناصب في الدولة، ومن أخرى “عدم الشهرة” هي ما يجعلها خارج مجال الاستهداف والتشكيك، في وقت دقيق وحساس، ويجعلها لفترة ولو قصيرة بعيدة عن نبش ملفاتها خاصة المتعلق بالفساد المحتمل، او الارتباط الحزبي او الخارجي او الشبكي ايضا الممكن، وهذا يعطي فسحة او لنقل “هدنة” على الاقل قصيرة لحوز حكم اولي ايجابي.
فالشعب التونسي ضاق ذرعا بالارتباطات التي تجعل رئيس الحكومة محكوما بمصالح واجندات من يفرضه، وظلّ يتطلّع للمسؤول غير المرتبط بالمصالح الخاصة او مصالح فئوية او قطاعية ضيقة او مرتبط بلوبي ما داخلي او خارجي، في زمن غابت فيه المصلحة العامة او كادت، غير انه يطرح الاستفهام بقوّة حول قدراتها (اي بودن) التسييرية وفي الحوكمة، لاهم المناصب اذ الخبرة الادارية والاكاديمية لا تكفي لتسيير دولة، ولكن في المقابل يطرح السؤال عن سلطاتها وصلاحياتها ان كانت تتطلب مؤهلات قصوى في ظل “الامر الرئاسي” عدد 117، الذي يمنح رئيس الحكومة سلطات محدودة تجعله مجرد مساعد للرئيس لا يرتقي حتى لمجرّد وزير أوّل.
الرئيس الذي يبدو أنّه صار تحت الضغط العالي لتشكيل حكومة وتسمية رئيس لها، بعد تصاعد الهجمة الاعلامية الخارجية في عديد الجرائد من “لوموند” الى “لوبوان” وصولا لـ”ليفيغارو” و”ماريان”، وبيانات الخارجية الامريكية وعدد من اعضاءالكونغرس الامريكي الاخيرة، وبعد ارتفاع حدة الضغط الداخلي من وقفة 26 سبتمبر التي قاربت 5 الاف مشارك من مشارب مختلفة، وبيانات الاحزاب والمنظمات والجمعيات الوطنية التي رفّعت النقد للبعض الى حدود الاتهام بالخروج الكامل لسعيد عن الشرعية، ولذلك كان الامر في غاية الاستعجال لدرأ ما يمكن من الضغط العالي، وكانت الاسبقية للتكليف دون اغفال تحقيق عدة اهداف اخرى محورية.
سعيد استند على الاغلب الى عنصر المباغتة والشكل والصورة على حساب المضمون، وهو الذي لا يولي للمضمون الحساب المستوجب في أغلب الاحيان، والاختيار على جامعية يظهر أنه مقصود للاستعاضة عن فقدان “الكفاءة السياسية”، لكن الاهم والابرز هو المسألة الجندرية باختيار امرأة، وهو ما كرره في ثلاث (3) مناسبات في مداخلة بأربع (4) دقائق، معتبرا الامر “لحظة تاريخية” وبأنه “أوّل مرة امرأة تتولى رئاسة حكومة في تونس”، وهذا على الظاهر للتسويق الخارجي من جهة وللتغطية عن كل عيوب المعنية من اخرى، واشغال المتابعين بالمسألة الجندرية التي تحوّلت الى موضوع أساسي للنقاش اختزل ابرز جوانب الحدث، وفي هذا نجح سعيد بشكل كبير.
الصورة كانت أساسية فالمنصب أصلا (اي رئيس حكومة) لم يكن أساسي لدى سعيد، وقد حوّل النظام السياسي في دستور 2014 الى رئاسي بسلطات امبراطورية مطلقة، وهو لا يحتاج الى رئيس حكومة فعلي يسيّر الحكومة ويضبط سياساتها، وقد كان (اي سعيّد) يتحدث في لقائه بمجموعة اساتذة القانون العام الذين التقاهم بالقصر قبل ايام عن حكومة رئيس بكتاب دولة، ورئيس الحكومة في تصوره ليس اكثر من مساعد يسهر على التنسيق بين افراد الحكومة وتنفيذ سياسة الرئيس، ولا سلطة له في تعيين اعضاء حكومته الذين يسميهم رئيس الجمهورية وفق الفصل 16 لـ”الامر الرئاسي” عدد 117، وقد يحدّ بشكل كبير من امكانيات تواصله مع الاحزاب السياسية والمنظمات الوطنية والخارج واتصاله الاعلامي بتكريس النموذج الجامد في مكتبه بالقصبة.
سعيد اختار وجود رئيس حكومة لمزيد ابراز الفخامة ووضع وسيط بينه وبين الوزراء، وللتنصل عند الاخفاق من المسؤولية وعزل رئيس الحكومة بشكل استعراضي، كما هو الشأن مع بورقيبة وبن علي طيلة العقود السابقة، وحوز المنجز عند النجاح وفي فترات الاستقرار والرخاء، فحتى أعضاء الحكومة على الاغلب تم تحديدهم، فسعيد عند تكليفه بودن طلب منها تقديم تشكيلة الحكومة في “الساعات” قبل ان يستدرك بسرعة ويقول “الايام القليلة القادمة” وتبدو على هذا الاساس رئيس الحكومة مجرد “ديكور” لا غير، والامر سيظهر ويتضح اكثر عند تحديد الاسماء والمحافظة خاصة على المكلّف بتسيير الداخلية، وبقية الاسماء الذين لن يخلو منهم شبكة الرئيس التي ساعدته في حملته “التفسيرية”، وربما مقربي شبكة القصر، مثلما حصل مع الفخفاخ والمشيشي.
وهذا أوّل اختبار لهذه الحكومة التي اذ ستمرّ بمجرد امضاء “الفرمان” الرئاسي دون تزكية برلمانية ودون حرج في الخصوص، فهي ستلاقي الاستهجان والاستنكار لو سقطت في تركيبة مشكلة من جماعة الرئيس، ولو أن الرئيس اكّد على وجود “فريق متجانس” لجسامة التحديات التي ستواجهها، ولو انها لن تخضع للمساءلة البرلمانية وبلا رقابة سوى امام الرئيس، في مهمّة اختزلها الرئيس في شق أساسي أوّل في “مكافحة الفساد” وفي شق أساسي ثان في الاستجابة لحقوق التونسيين في “الحياة الكريمة”، والمفارقة هنا تبدو عميقة اذ لا نعرف لنجلاء بودن خبرة ولا منجزات في مكافحة الفساد ولا حتى مجرد معرفة نظرية، وايضا في خصوص عناصر شق “العيش الكريم” المتمثلة في الصحة والنقل، وحتى التعليم الذي مارسته فتبدو تجربتها بلا نتائج تذكر ان لم تكن فاشلة.
ودون الخوض في ادارتها لادارة الجودة بوزارة التعليم العالي منذ مطلع العشرية الفارطة، ودون الخوض في اضطلاعها بمهام استشارية لدى وزير التعليم العالي، ويكفي التدقيق في مدة اشرافها ابتداء من 2016 على مشروع اصلاح التعليم العالي بربطه بالتشغيل (الذي موّله البنك الدولي للانشاء والتعمير بقرض بقرابة 70 مليون دولار (1))، والاطلاع على قيمة الشهائد العلمية العقيمة المتهاوية بل المنتجة للاحباط العام لدى الشباب،
شكري بنعيسي