جاء تفاعل الرأي العام التونسي مع موقف مجلس إدارة البنك المركزي الصادر يوم الثلاثاء 27 أكتوبر 2020 الرافض لتمويل عجز ميزانية الدولة لسنة 2020 استنادا الى مقتضيات قانون استقلالية البنك المركزي لسنة 2016 بين مستغرب لهذا الموقف، ومتهم البنك المركزي بتخليه عن اغاثة خزينة الدولة، ومتفهم لانضباط البنك لنظامه الداخلي بقطع النظر عن مخاطر التوازنات المالية الداخلية على الأمن القومي.
الاستغراب من رفض البنك المركزي التمويل المباشر لعجز ميزانية الدولة جاء بناء على تصريحات سابقة لوزير الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار التي كشف فيها ان البنك المركزي التونسي سيكون طرفا مباشرا في تمويل الميزانية، وذلك في إطار خطة لتعبئة موارد بقيمة 10 مليار دينار لسد ثغرة في ميزانية 2020 معتبرا تمويل البنك المركزي لخزينة الدولة بشكل مباشر هو إجراء معمول به في عدة دول أوروبية وعربية، وانه يندرج ضمن الحلول التي يمكن اللجوء إليها زمن الأزمات.
مقابل هذا الموقف، ترى الأطراف المتهمة البنك المركزي بتخليه عن إغاثة خزينة الدولة ووصفه بالمتمرد على الدولة زمن الأزمات، ترى أن البنك المركزي قد اختار الاصطفاف وراء اللوبيات الداخلية المهيمنة على مفاصل الاقتصاد الوطني الممثلة في مجلس ادارته وخاصة البنوك المحلية التي وجدت في تمويل ميزانية الدولة بمقتضى قانون استقلالية البنك المركزي منفذا لتحقيق أرباح خيالية بنسبة مخاطرة صفرية لتتحول بذلك ميزانية الدولة الى “بقرة حلوب” لهذه البنوك من جهة، وسيفا مسلطا على المواطن وعلى الاقتصاد الوطني من جهة ثانية.
أما الأطراف المتفهمة لموقف البنك المركزي فهي ترى أن هذا الموقف يدخل في خانة انضباط البنك لقانون استقلالية البنك المركزي الذي جاء في إطار الإصلاحات الهيكلية الكبرى التي تعهدت بها الدولة التونسية تجاه صندوق النقد الدولي مقابل الحصول على قرض في إطار الية التمويل “تسهيل الصندوق الممدد” بقيمة 2.9 مليار دولار والذي صادق عليه مجلس نواب الشعب في أفريل 2016 رغم الانتقادات الخطيرة التي وجهت لمشروع القانون والنواب ال72 الذين دافعوا عليه، والتي تعتبر، أي الانتقادات، هذا القانون تهديدا للدولة الوطنية من جهة، والية لرهن ميزانية الدولة للبنوك المحلية، وطريقة لوضع سياسة المالية العمومية في قبضة مزايدات صندوق النقد الدولي بخصوص كتلة الأجور المتهمة اليوم بامتصاص نفقات الميزانية.
في هذا الباب جاء تعليق محافظ البنك المركزي خلال جلسة استماع عن بعد يوم الأربعاء 28 أكتوبر 2020 أمام لجنة المالية على سياسة المالية العمومية والذي اعتبر فيه نفقات التأجير مرتفعة وتجاوزت 19 مليار دينار مقدرة بميزانية لسنة 2020، داعيا الحكومة الى مراجعة مشروع المالية التعديلي في اتجاه تخفيض النفقات وتأجيل النفقات التي يعتبرها غير ضرورية، الى جانب العمل على تكثيف عملية استرداد المبالغ المستحقة لفائدة الدولة، مشددا في ذات السياق على أنه لا يمكن للبنك المركزي تقديم تمويل إضافي للخزينة الا بترخيص استثنائي من مجلس النواب على الا يتجاوز التمويل 3% من الناتج المحلي الإجمالي و12% من الموارد الذاتية للخزينة مع ضرورة حصره وفقا لجدول زمني محدد مسبقا.
كما ترى أطراف رابعة أن انضباط البنك المركزي جاء لإخفاء حقائق خطيرة بخصوص تدهور المؤشرات المالية والاقتصادية الى مستويات خطيرة وغير مسبوقة.
وبقطع النظر عن طبيعة ردة الفعل التي جاءت موزعة بين مستغرب ومتهم ومتفهم لموقف البنك المركزي الرافض لتمويل عجز ميزانية الدولة بصفة مباشرة، فان ما كشف عنه وزير المالية في تصريحاته الإعلامية بخصوص اعتبار البنك المركزي طرفا مباشرا في تمويل ميزانية الدولة من جهة، وما قدمه محافظ البنك المركزي أمام لجنة المالية من تبرير لهذا الموقف الرافض الذي يستند الى مقتضيات قانون استقلالية البنك المركزي من جهة ثانية، وفي ظل التعامل اليومي بين وزارة المالية والبنك المركزي حسب تصريحات محافظ البنك المركزي الأخيرة، فإننا نتساءل بكل جدية عن فحوى هذه اللقاءات اليومية تقريبا بين السلطة التنفيذية والسلطة النقدية والتي تفترض التوصل الى حلول عملية قبل تحويل وزارة المالية مشروع قانون المالية التعديلي لسنة 2020 الى مجلس نواب الشعب.
فمن شأن هذه اللقاءات اليومية أن تقرب بين وجهات النظر المتناقضة وتعمل على إيجاد تنازلات ظرفية من الجهتين تؤمن توفير الاعتمادات الإضافية لميزانية الدولة باعتبار أن السلطتين هما في اخر المطاف في خدمة الدولة الوطنية التونسية ودورهما يحتم ابتكار حلول صعبة وممكنة وغير تقليدية لأزمة غير مسبوقة، الا أنه يبدو أن هذه اللقاءات كانت صورية وأن الغاية من هذه المسرحية المسقطة هو إعطاء التأشيرة للحكومة للتفريط في البنوك العمومية الثلاث والمؤسسات العمومية الخمسة المنصوص عليها في رسالة النوايا الثانية الموجهة لمديرة صندوق النقد الدولي في 2 ماي 2016 وهي الشركة التونسية للكهرباء والغاز، وديوان الحبوب، وشركة الخطوط التونسية، والوكالة الوطنية للتبغ والوقيد، والشركة التونسية لصناعات التكرير.
بقلم جنات بن عبد الله