كأن ذلك بعض بقايا زمن سحيق قديم.. هل كان واقعا أم كان حلما ضاعت تفاصيله الكثيرة الدافئة؟ يا إلاهي ما أشد ما تختلط الحقائق بالأحلام في الأشياء القديمة السحيقة..
كنت أصحو على سيل الزغاريد فجرا.. البرد شديد على طفل يعيش فقيرا بين فقراء، وما أشد برد الفجر في ريف فقير منسي.. لكن سيل الزغاريد يزرع في النفس واديا من فرح.. والفرح ينسي المرء برده وفقره ورثاثة ما يلبس وقدميه الحافيتين.
سيل الزغاريد ينطلق من جديد.. والعصيدة الساخنة باتت جاهزة.. كأن آمنة قد احتضنت فلذة كبدها للتو.. أو كأن حليمة تلتقيه لأول وهلة بدهشة ومحبة غامرة، وتأخذه للبادية رحمة وبركة ونماء حال.. وأمي لا تكف عن زغاريد الفجر الممتعة.. كأنه للتو قد “ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء”..
آخذ قصعة العصيدة بيضاء ساخنة وعليها حفنة كبيرة من سكر.. آخذها على مهل وحذر أن أتعثر بها أو أن تنقلب بين يدي.. يتجمع أطفال الدوار على القصعة.. لقد جلبهم صخب الزغاريد الندية فجرا.. والعصيدة مازالت ساخنة لاهبة.. تندمج فيها أيدينا الباردة المقرورة فتدفأ سريعا.. ثم نحس بعد قليل بشدة حرارتها.. نداورها.. نناورها.. ونزدرد العصيدة بفرح..
إنها عصيدة المولد.. عصيدة ليست ككل العصائد.. عصيدة الفرح المبارك.. عصيدة عمق الانتماء لأمة ليس لها في الدنيا مثيل.. فقد كنا ومازلنا خير أمة أخرجت للناس.. تهنا عن الطريق كثيرا.. عصفت بنا رياح التيه في صحراء الضياع كثيرا كثيرا.. لكن مازال ثمة شيء يشدنا للمنبع.. مازال ثمة الكثير يذكرنا بأننا من الأمة التي نزلت عليها آخر توجيهات السماء.
صلى عليك الله يا علم الهدى * ما سار ركب أو ترنم شادي
كبرت وبعدت عني زغاريد أمي.. شاخت أمي ولم تعد قادرة على طبخ العصيدة فجرا ولا إطلاق زغاريد المولد المبارك في غسق الليل.. لكن زغاريدها القديمة وعصيدتها مازالت أمام عيني.. كبرت وتقلبت بي الدنيا وأيامها.. لكني مازلت مشدودا لعصيدة أمي.. كأن بعض الفرح الذي يغمر صدري في هذه الذكرى العظيمة مدد من تلك الزغاريد.
يا سيد الكونين يا علم الهدى * هذا المتيم في حماك نزيل
لو صادفتني من لدنك عناية * لأزور طيبة والنخيل جميل
هذا رسول الله هذا المصطفى * هذا لرب العالمين رسول
هذا الذي رد العيون بكفه * لما بدت فوق الخدود تسيل
هذا الغمامة ظللته إذا مشى * كانت تقيل إذا الحبيب يقيل
هذا الذي شرف الضريح بجسمه * منهاجه للسالكين سبيل….نورالدین العویدیدی