لماذا تتصدّر ثلاث دول للحملة الفرنسيّة ضدّ المُسلمين ورسولهم وتغيب الزّعامات العربيّة وخاصّةً السعوديّة؟ وكيف خرج أردوغان عدوّها الأكبر الزّعيم الأكثر شعبيّةً في أوساط مِلياريّ مُسلم تقريبًا؟
عندما تتوحّد تركيا والباكستان وإيران والتي تُشكّل تِعداد سكّانها حواليّ ثُلث العالم الإسلامي، على أرضيّة مُواجهة تطاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على المُسلمين وعقيدتهم، وبِما يُضفي “شرعيّةً رسميّةً” على ظاهرة “الإسلاموفوبيا” العُنصريّة التي تتضخّم حاليًّا في العالم الغربي، فإنّ هذا يعني أنُ هذه المواقف المُفتَعلة و”المُسيّسة” للرئيس الفرنسي بدأت تُعطي نتائج عكسيّة، ليس على فرنسا فقط، وإنّما على أوروبا أيضًا، وتُحيي أدبيّات الحُروب الصليبيّة، بطَريقةٍ أو بأُخرى.
العالم الإسلامي يعيش حالةً من الغضب غير مسبوقة بسبب انحِياز الرئيس الفرنسي الفاضِح، والاستِفزازي للرّسوم الكارتونيّة المُسيئة للرّسول محمد صلى الله عليه وسلم، وتعبئة الرأي العام الفرنسي ضدّ المُسلمين الذين يُمثّلون حسب آخِر الإحصاءات حواليّ 15 بالمِئة من مجموع المُواطنين الفرنسيين، إن لم يَكُن أكثر.
فها هو الرئيس رجب طيّب أردوغان يُطالب ثمانين مِليون تركي بمُقاطعة البضائع الفرنسيّة، ويُقدِم الرئيس الباكستاني عمران خان على استِدعاء السّفير الفرنسي في بلاده ويحتج رسميًّا على تصريحاتِ رئيسه، وتُصدِر المرجعيّات الباكستانيّة الإسلاميّة فتاوى بتحريم شِراء المنتوجات الفرنسيّة، أمّا الجِنرال علي شمخاني رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني فوصف سُلوك ماكرون وتصريحاته في مُعاداة الإسلام بـ”التهوّر” ودليلٌ على جهله بالسّياسة.
كان مُؤلمًا أنّ مُعظم زُعماء العالم الإسلامي بجميع أجنحته المذهبيّة، السنيّة والشيعيّة، يتصدّون لحملة التّكريه التي يقودها الرئيس ماكرون ضدّ عقيدتهم باستِثناء الزّعماء العرب الذين غابوا عن المشهد كُلِّيًّا، وخاصّةً في المملكة العربيّة السعوديّة راعية الحرمين الشريفين، فلم يَصدُر أيّ بيان عن العاهل السعودي الملك سلمان أو وليّ عهده، أو أيّ ملك أو أمير خليجي آخَر يُدين هذه الحملة الفرنسيّة العُنصريّة.
الدّليل الأبرز على جهل ماكرون بالسّياسة والعُلاقات الدوليّة تحديدًا، إنّه في طرفة عين، وبسبب تصريحاته الفجّة الاستفزازيّة قدّم هديّةً لا تُقدّر بثَمنٍ لخصمه رجب طيّب أردوغان الذي يخوض ضدّه حربًا تحريضيّةً في أوروبا وليبيا وأذربيجان وشرق المتوسّط، عندما حشد مُعظم المُسلمين خلفه، وبات يُقدّم نفسه على أنّه الحامِي لهم، وللعقيدةِ الإسلاميّة.
فرنسا التي تُواجه ظُروفًا اقتصاديّةً صعبةً بسبب تفشّي وباء الكورونا، ووصول الإصابات إلى أرقامٍ قياسيّةٍ (52 ألف حالة يوم أمس الأحد)، ويُقدِم رئيسها “المُلهم” على مُعاداة أكثر من مِلياريّ مُسلم يُشَكِّلون أكبر سُوقًا للبضائع الفرنسيّة في العالم.
فعندما تخلو رُفوف الجمعيّات التعاونيّة والسوبرماركات الكُبرى في دولةٍ حليفةٍ لفرنسا مِثل الكويت (شُكرًا للشّعب الكويتي)، وتَنكمِش مبيعات السيّارات الفرنسيّة في إسطنبول ومُعظم الأسواق التركيّة التي تُعتَبر عاشِر أكبر وجهة للصّادرات الفرنسيّة، والأمثلة المُشابهة كثيرة في العالم الإسلامي لا يتّسع المجال لذِكرها، فإنّ هذا يَكشِف مدى غباء الرئيس ماكرون وقُصر نظره، وسُوء إدارته لمصالح بلاده.
طبعًا لا ننسى الثّورة الشعبيّة الغاضِبة ضدّ فرنسا في دول الاتّحاد المغاربي، موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا، وهي الثّورة التي لم تَكتفِ بمُقاطعة البضائع الفرنسيّة، وإنّما إلغاء، أو تأجيل، مُؤتمر القمّة الفرانكفورنيّة التي من المُتوقّع أن ينعقد الشّهر المُقبل في تونس، علاوةً على المُقاطعة، والمُظاهرات الاحتجاجيّة.
اللّوبي الصّهيوني في فرنسا الذي يعيش حالةً من الانتِشاء في الوقتِ الراهن بفِعل النّجاحات الني حقّقتها اللّوبيّات الصهيونيّة المُماثلة في أمريكا وتمثّلت في هرولة بعض الدّول العربيّة للتّطبيع مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي، هذا اللّوبي الذي عَمِل طِوال السّنوات الماضية على تضخيم أُسطورة “الخطر الإسلامي” على فرنسا والتّحريض ضدّ المُسلمين على أرضها، هو الذي يَقِف خلف حملات ماكرون التّكريهيّة هذه، وما يُمكِن أن يترتّب عليها من تَصعيدِ التطرّف وتهديد أمن فرنسا واستِقرارها، وربّما يُفيد التّذكير هُنا بأنّه، أيّ الرئيس ماكرون، هو الذي استصدر قرارًا من البرلمان الفرنسيّ، وبضَغطٍ من هذا اللّوبي يُساوي بين العداء للصّهيونيّة والإسلاميّة في فرنسا.
مُعارضة ماكرون وحملته على المُسلمين لا تعني عدم إدانة القتل البَشِع على يدِ مُسلمٍ مُراهقٍ مُتطرّف للمدرّس الفرنسي صامويل باتي بطريقةٍ بَشِعَةٍ، أو دعم بعض الجماعات الإسلاميّة المُتشدّدة التي تُمثّل أقليّة الأقليّة في أوساط المُهاجرين العرب والمُسلمين، فنحن مع التّعايش، وعلى قَدمِ المُساواة بين المُهاجرين المُسلمين والدّول الحاضِنة لهم، وهذا رأي الغالبيّة العُظمى منهم ضحايا سِياسات التّمييز والجماعات العُنصريّة، وبعض السّياسات الرسميّة.
وطالما نتحدّث عن التّعايش، الانتهاكات الرسميّة البَشِعَة لبعض حُقوق هذه الشّريحة من المُجتمع الفرنسي نَجِد لِزامًا علينا التّذكير بأنّ أعمال القِتال والتّمييز التي يتعرّض لها عدد كبير من المُهاجرين الذين يعيشون في “غيتوهات” أو “معازل” على هامِش المُدن الرئيسيّة لا تَقِلّ بشاعةً عن مقتل المدرّس الفرنسي، إن لم تَكُن أكثر، وكان آخِر هذه الجرائم الاعتِداء على سيّدتين مُحجّبتين بالطّعن قُرب برج إيفيل في قلب العاصمة وقتل الشّاب المُسلم تراوري (من أصول ماليّة) خنقًا على يدِ أربعة رجال شرطة في حزيران (يونيو) عام 2016، وهو خنق لا يَقِلّ بشاعةً عن خنق جورج فلويد الأمريكي الإفريقي الأصل الذي فجّر ثورةً ضدّ العُنصريّة في أمريكا.
حريّة التّعبير لا تعني حريّة الإساءة ونشر التّمييز وثقافة الكراهية ضدّ مِلياريّ مُسلم في العالم طمعًا في الفوز بولايةٍ ثانيةٍ في الانتخابات الرئاسيّة القادمة عام 2022، مثلما يطمح الرئيس ماكرون، كما أنّها لا تعني مُنافسة اليمين المُتطرّف بزعامة مارين لوبان بالتّطاول على المُسلمين وشيطنتهم للتّفوّق في استِطلاعات الرأي، أو الوقوع في مِصيَدة اللّوبي الصّهيوني، وتبنّي سِياساته التحريضيّة، حريّة التّعبير باتت عُنوانًا وغِطاءً للكراهية والعُنصريّة ضدّ المُسلمين في فرنسا، وهذا ليس أمْرًا مُؤسِفًا فقط، وإنّما خطيرًا جدًّا لبَلدٍ تقول إنّها بَلدُ النّور وثقافة التّسامح والمُساواة.
“رأي اليوم”