حين تستمع إلى ماكرون في تصريح له عن العملية الإرهابية، وبقطع النظر عن ملابسات عملية القتل الفظيعة المدانة كأقوى ما تكون الإدانة، وأيّا كانت علاقة ماكرون بها سياسيا وانتخابيّا، فإنّك تستمع إلى جمل سياسيّة واضحة بمرجعيّة هي قيم الجمهوريّة.
1 – تفهم من كلمة ماكرون أنّ الضحيّة مواطن ومدرّس يعمل ضمن أهمّ مؤسسات الدولة المعبّرة عن القيم المذكورة، والدولة مسؤولة عن حمايته وحماية القطاع برمّته وجلّ مؤسسات الجمهوريّة وقيمها. وهو جزء من شعب لا بدّ من طمأنته في مثل هذه الأحداث، على اختلاف دياناته وملله ونحله. وهذا ما كان من ماكرون.
قد يقول البعض إنّ هذا خطاب للاستهلاك السياسي، وإنّ استهداف مسلمي فرنسا أوالإسلام الفرنسي، سبق هذه العملية، حتّى غدت كأنها نتيجة له.
قد يكون لهذا بعض وجاهة. ولكن المقصود من كلامنا ليس هذا. ما عنيناه هو أنّ هناك مشتركا صلبا يجمع مثل هذه التجارب في الانتظام السياسي وتدبير الشأن العام. وبناء هذا المشترك كان نتيجة لمسارات عسيرة وتنازلات موجعة أفضت إلى تسويات تاريخية لولاها ما كان ممكنا بناء مشترك.
ولو كان المتكلم غير ماكرون من سياسيي فرنسا فإنّ الجُمَل حول مثل هذه الأحداث وغيرها لن تختلف مضامينها ومرجعيتها إلاّ من حيث بلاغة المتكلّم وأسلوبه وقدرته على تقديم الصياغة الأفضل ضمن المرجعية نفسها.
2 – لو كان الحادث بيننا – لا قدّر الله – وفي مشهدنا السياسي الحالي في تونس، فإنّنا سنستمع إلى أكثر من “خطاب” وسنُحال على أكثر من “مرجعيّة”. ولا يمكن لهذه الخطابات ألاّ تتصادم وألاّ يتبادل أصحابها التهم وهم في أعلى مؤسسات الدولة، ولو على سبيل التلميح. ومن المستبعد ألاّ يتقاذفوا بالمسؤولية مع إصرار منهم على جرّ الحادث إلى حلبة التجاذب السياسي غير المؤسس على مشترك جامع.
كلام ماكرون، بدوره، لا يمكن أن يكون بعيدا عن تجاذبات فرنسا السياسيّة والاستعداد للانتخابات، وقد يقارب التمييز العرقي والديني، ولكنّ الخطاب السياسي يبقى على أرضيّة قيمية صلبة وداخل مرجعيّة واحدة.
لا شكّ في أنّ وضعنا في تونس، يختلف عن وضع نظام الاستبداد العربي. ولو كان مثل هذا الحادث في ظل نظام الاستبداد لكنّا أمام خطاب واحد ومرجعية واحدة ولكنها مرجعيّة الاستبداد وقيمه وخطابه الخشبي المضلّل والمقرف.
3 – نعيش في تونس وضع الانتقال الفعلي إلى الديمقراطيّة لذلك تتعدّد المرجعيّات، فالاختلاف المرجعي ليس مع الشعبوية والفاشية الانعزاليّتين فحسب، وإنّما هو واقع بين القوى الديمقراطيّة نفسها. وهو تجاذب واضح بين الخطاب الأهليّ والخطاب المدني. مع مشكل بنيوي عميق في الترجمه عن العصر عند الخطابين. فكلاهما مازال إحيائيا في جوهره بعيدا عن التأسيس.
سنصل إلى أنّ “بناء المشترك” ولو كان مرحليّا سيكون ضرورة. ودونه سيكون التحلّل والانهيار.
الأفق هو التسوية التاريخية الشاملة وعندها يستقرّ البناء السياسي.
وفي انتظار ذلك فلا أقلّ أن يتأطّر الخطاب السياسي (أيّا كان مصدره وأيّا كان سياقه) ضمن ثوابت عامّة نراها في الثورة والدستور ومسار بناء الديمقراطيّة.
هذه ثوابت يجب ألاّ تغيب عن كلّ خطاب سياسي ولا سيما في أعلى مهما كان موضوعه.
4- ملاحظة أخيرة: القيم التي ترددها الطبقة السياسيّة في فرنسا ( وأوروبا ) بصفة عامة، بدأت تفقد بريقها، وتتخشّب بدرجة من الدرجات. وإن كانت فرنسا بلائكيتها لم تخرج عن سلوك “الدولة الدينيّة” بتدخلها في ذوق الناس ولباسهم، قياسا إلى الدولة العلمانيّة في أوروبا.
ولكن الذي يعنينا أكثر هنا هو أنّ الجمهورية الخامسة في فرنسا تواجه شرخا اجتماعيا عميقا عبّرت عنه حركة السترات الصفراء. وهي تطابق وظيفيا دور الهامش عندنا وانتفاضته وإسقاطه نظام بن علي، وفرضه الاختيار الشعبي الحرّ والشفاف، وفسحه المجال أمام الطبقة السياسيّة لتبني نموذجا في التعايش والانتظام السياسي لم تتوضّح ملامحه بعد.
والأهمّ هو أنّنا سبقنا فرنسا بالانتفاض وبالانتباه إلى الانقسام الاجتماعي ولكنّنا تعثّرنا في رأبه. ويمثّل أصحاب ماكرون من بني جلدتنا أحد أهمّ أسباب التعثّر في رأب الصدع الاحتماعي بتعمّدهم تعميق الصدع الهووي ومنع بناء مشترك فيه.
وهو ما يفعله ماكرون نفسه في فرنسا بإثارة الصراع الهووي (الإسلام الفرنسي) تغطية على الشرخ الاجتماعي (السترات الصفراء) والأزمة الاقتصادية والصحيّة.
تقدّمنا في الانتفاض وريادتنا في تدشين مرحلة الانتقال إلى الديمقراطيّة في المجال العربي يساعدنا على المساهمة ولِمَ لا تقديم الإضافة في موضوع أزمة الدولة الحديثة والديمقراطيّة التمثيلية ومشاكل الطاقة والبيئة والفقر والثروة…
زهير إسماعيل