الأسبوع الماضى، كان افتتاح مهرجان «الجونة» الرابع للفيلم، (والمرة الأولى لى شخصيًا لحضور افتتاح مهرجان سينمائى).ضرت الحفل وفى ذهنى تساؤلات عديدة حول تمسك منظمى المهرجان بإقامته فى ظل أجواء «كورونا» الثقيلة، والمصاعب المالية والتنفيذية، التى يمكن أن تعرقل نجاحه هذا العام، والجدل المُثار حول تكريم الممثل الفرنسى «جيرارد دوبارديو»، المتهم من كبار فنانى مصر ومثقفيها بالصهيونية.
ولكن نجح حفل الافتتاح، وانطلق المهرجان رغم كل الصعوبات، ولاتزال عروضه مستمرة حتى كتابة هذه السطور. شخصيًا لم أتمكن
من حضور سوى الافتتاح واليوم التالى من المهرجان، ولكن بقيت معى بعض الانطباعات التى أعرضها عليكم فى أربعة مشاهد:
المشهد الأول هو الإقبال الشديد على الحفل من نجوم مصريين وعرب ومن متخصصين وجمهور شبابى، لم يمنعهم جميعًا الخوف من «كورونا» من الحضور وإضفاء الكثير من البهجة والتفاؤل وكذلك التحدى والرغبة فى إنجاح واحدة من أهم المناسبات الثقافية وعدم التفريط فيها مهما كان الثمن.
المشهد الثانى هو ما تضمنته فقرات حفل الافتتاح من تعبير عميق عن قيمة الوفاء. الوفاء تجاه الراحل «خالد بشارة»، الذى اختطفه الموت فى حادث مؤسف مطلع هذا العام، وكان له دور بارز فى إطلاق مهرجان «الجونة» وفى إدارة شركة «أوراسكوم» وفى دعم الكثير من الشباب الراغبين فى اقتحام عالم الأعمال والحياة العامة. وقد عبرت كلمتا «سميح ساويرس» وزوجة الفقيد «ماريان» عن خسارة أصدقائه وزملائه وكل مَن نال قدرًا من حماسه للحياة والعمل والتغيير. كذلك تضمن الحفل فيلمًا قصيرًا عمن فقدتهم مصر من نجوم السينما خلال العام المنصرم، وملأت شاشة العرض الكبيرة لقطات خالدة لكل من «شويكار» و«محمود ياسين» و«رجاء الجداوى» و«ماجدة صباحى» و«نادية لطفى» و«محمود رضا» وغيرهم، فى تعبير آخر صادق عن الوفاء لجيل راحل من صناع البهجة والفن. وأجمل تكريم كان للفنان «أنسى أبوسيف»، رائد الديكور والهندسة السينمائية، والذى حضر، وبدوره لم يَفُتْه ذكر فضل «شادى عبدالسلام» عليه شخصيًا وعلى السينما المصرية.
أما المشهد الثالث الذى استوقفنى فهو أنه فى مقابل انشغال الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعى بالفنانين والفنانات ولحظة وصولهم على ما يسمى «السجادة الحمراء» وتسجيل آخر صيحات الملابس والأزياء والمجوهرات، فى مقابل هذا كله فإن عالمًا آخر موازيًا كان مليئًا بالحيوية والنشاط والجدية، عالم مُحِبِّى السينما الحاضرين لمشاهدة الأفلام فى هدوء، وعالم الشباب الراغبين فى اقتحام المجال السينمائى، وعالم أصحاب الأفكار والمشروعات والابتكارات المتحمسين لعرض ومناقشة ما يشغلهم والتقاط فرص التمويل والرعاية، وقد استمعت لإحدى الندوات المخصصة لمناقشة وتقييم أفكارهم ولمست سعادتهم باهتمام المهرجان بهم، خاصة اشتباك «نجيب ساويرس» فى الحوار معهم وفى تقييم أفكارهم. هذا عالم قد لا يجد اهتمامًا وتقديرًا إعلاميًا ولا موقعًا على السجادة الحمراء، ولكنه يستحق كل التقدير والاحترام لما فيه من طاقة إبداعية وتفاؤل بالمستقبل وتحدٍّ للقيود.
وأترك المشهد الرابع والأخير للممثل «جيرارد دوبارديو»، الذى استدعى حضوره وتكريمه انتقادًا شديدًا من جانب ممثلين وسينمائيين ومبدعين مصريين أشاروا، فى بيان أصدروه قبل افتتاح المهرجان، إلى مواقفه الصهيونية. والحقيقة أننى، مع إعجابى بتمثيله، لم أكن قد سمعت عن ذلك من قبل وأثق فى تقديرهم. وقد هالنى- حينما بحثت فى المنشور عنه على المواقع الرسمية- أن الرجل مشهور أيضًا بالاتهامات الموجهة إليه بالتهرب من الضرائب، وبالتحرش الجنسى، وأنه لهذا كله ترك بلده وهاجر إلى بلجيكا، ثم حصل على الجنسية الروسية. اختياره إذن للحضور وللتكريم لم يكن موفقًا ولا مطلوبًا، ولمَن اعترضوا على تكريمه كل الحق. وهو من جانبه أضاف إلى ما سبق بحضوره العابر على المسرح لدقائق قليلة وإلقاء كلمة هزيلة ليس فيها حتى اكتراث بالمناسبة. مع ذلك فإن هذا، فى تقديرى، ليس سببًا لإدانة المهرجان بأكمله ومقاطعته، لأن حضور «دوبارديو» لم يكن إلا نقطة فى بحر أبرح منه ومن مواقفه وسلوكه، ومهرجان «الجونة» يستحق الاهتمام والمساندة والتقدير كى يستمر وينمو ويظل داعمًا للسينما المصرية والعربية، فتحية لمَن بذلوا الجهد والمال وتحملوا النقد والمشقة لكى يقاوم المهرجان الوباء والركود ويظل نافذة للفن والحرية.
زياد بهاء الدين