كتبت منذ سنوات في دفتري الخاص نصّاً له علاقة بذوقي في الشَعر والثياب والأكسسوارات التي تستدعيني إليها، منها هذا المقطع:
“عندما أرتدي ثيابي العادية لا أحبّ شكلي… وحدها التنانير الطويلة الممعنة في السفر من خصري إلى الأرض أحبّها وهي تلملم لي في أطرافها حكايا التراب، وكثيرة هي حكايا التراب…
مؤخراً عادت موضة الجينز الممزق، شعرت لوهلة أن مَن اخترع هذه الموضة كان يقصدني شخصياً، ولم يأت قراره المجنون هذا عن عبث…
ارتديته… هذه أنا…
عمليّة كالجينز، ممزقة من رأسي إلى أخمص قدمي، إنه ثيرموميتر حالتي النفسية والعشقية، إنه أنا بكل بساطة، بخيطانه التي تحاول جاهدة التمسك بهيكله لكنها تفلت منه منهارة حيناً، متحررة أحياناً أكثر…
لعبة الإخفاء والظهور التي يلعبها جينزي الممزق هي أنا. أكشف ما أريد وأرمي ما أريد في بئري السرّي الذي يطوف أحياناً رامياً في وجهي قصصاً ضاعت مفاتيحها.
هذا الجينز عنوان تشرّد طويل… لكلّ تمزق فيه يد ما، مشرط ما، سكين ما… أو حادثة طريفة ربما…
هذا الجينز يفرض اختلافه مع أرقى الملابس، كما فرضت نفسي في عوالم لا تشبهني، أشعر أحياناً أنه توأمي، يتطرف أحياناً أكثر مني، وأحياناً أضعه في موقف قصير النظر!
ومع تنانيري وجينزي الممزق وخلخالي تكتمل لوحتي…”.
وأنا أطالع هذا النص استغربت لماذا قد تأخذ قطعة ملابس مني كل هذه التساؤلات؟ ولماذا أرتاح للناس الذين يرتدون ثياباً مريحة وواسعة وممزقة؟ هل هو توق قديم نحو التمرد الذي لم أشفَ منه؟
ثم قرأت العام الماضي أن مديرة المعهد الاجتماعي للأمن الديموغرافي في موسكو إيرينا مدفيديفا تعتبر أن الترويج للأزياء البالية والرثة يعكس حالة عدم رضا لدى الشباب، ويؤدي إلى خلل فكري خطير، وأن لباسهم هذا دليل على مشكلات اجتماعية ونفسية خطيرة مثل تدني في الأخلاق وزيادة في العدوانية.
ولترجيح كفة الميزان عدت وبحثت فوجدت أن حركات الـ punk، خصوصاً الفنية والثقافية منها في السبعينيات التي كانت تدعو إلى تدمير السلع الاستهلاكية قامت بتدمير الجينز الدنيم على طريقتها فمزقته وارتدته خلال الاحتجاجات وصار يرمز إلى التحرر والتمرد.
فأعجبتني الفكرة وتبنيتها!
فما قصة الجينز الممزق؟
أول ظهور للجينز كسروال كان في أواخر القرن التاسع عشر، وصنع ليناسب عمال مناجم الذهب بسبب قماشه المتين والقاسي الذي صممه ليفي شتراوس الأميركي من أصل ألماني من قماش الدنيم المصبوغ بالأزرق بعد تصميمه لسراويل من الخيش البني الذي كان قد نفذ.
بالطبع لم يكن تمزيق الجينز ترفاً ولا موضة، إذ كان يتمزق بسبب اللبس الدائم له أثناء العمل المضني، فيحتك بالتراب والصخور ويتمزق تناغماً مع الحركة المستمرة في العمل، واستخدم الخياط جاكوب دافيز المسامير بدل الخيطان في أماكن معينة كزوايا الجيوب لتدعيم هذه القطعة وعدم تمزقها بسهولة، وكان سعره المتدني جداً عام 1879 يتناسب مع القدرة الشرائية للعمال. ثم ما لبث أن أصبح سروالاً جيداً لرجال الكاوبوي، ثم للرجال عامة قبل أن تلبس المرأة السروال للمرة الأولى في الأماكن العامة عام 1919، في بورتوريكو، وأودعت الكاتبة والناشطة التي ارتدت السروال لويزا كابيتيلو السجن حينها لما اعتبر جريمة آنذاك ولكن أفرج عنها في السنة ذاتها.
تلك الشرارة كانت ضمن حقوق مطلبية نسائية عدة، ولكن لا أعتقد أن لويزا ظنت أن السروال للفتيات سيصبح اللباس الأساسي بعد عشرات السنوات، وقطعة لا يستغنى عنها. إذ تحتوي معظم خزائن النساء على السراويل، وبعضها تفتقر حتى إلى التنانير والفساتين بشكل لافت.
الجينز إلى دور الأزياء
أما الجينز العادي أولاً والممزق ثانياً فلم يكن يعتقد أنه سيكون نجم السنوات اللاحقة إن في الحياة العملية أو على منصات عروض الأزياء، بخاصة بعد أن تزيّن بالدانتيل والتطريزات والخرز والريش والألوان والتمزيق… وأصبح سروال الجينز يتماشى مع الموضة من الخصر العالي أو المتوسط أو المنخفض، إلى الضيق والواسع بقصات متنوعة منها الكلاسيكي، أو واسع القدمين أو الفضفاض إضافة إلى الألوان التي على الرغم من تعددها لا يزال الأزرق بتدرجاته سيدها على الإطلاق يليه الأسود ثم الأبيض.
في نظرة سريعة إلى مواقع دور الأزياء العالمية نجد كيف أخذ الجينز مكانته في العروض العالمية، وهذه القماشة ذاتها التي كانت تكلف للسروال الواحد أقل من 1.5 دولار في أواخر القرن التاسع عشر أصبحت تباع بمئات الدولارات وبعضها يصل إلى ألف دولار وأكثر لمجرد توقيعها باسم إحدى الدور العريقة والباهظة، ولكنها بالطبع موجودة بأسعار شعبية تصل إلى 10 دولارات أحياناً، وبأسعار مقبولة تصل إلى 50 دولاراً في محلات أخرى.
مزقيه من أسفله ليتماشى مع الموضة
تخبر مصممة الأزياء نانسي مطر موقع “اندبندنت عربية” أن الجينز الممزق لم يعد في إطار الموضة لهذا العام ما عدا الجينز المنسّل الأطراف عند أسفله فقط، والآن هو ترندي يصل إلى الكاحل. أما القَصة الدارجة فهي البوي فرند واسعة مع خصر عال وكسرات، وممكن أن يثنى أو يطوى من نهايته (الزاف) بطويتين فيعطي شكلاً جميلاً.
وتعتبر مطر أن الجينز الممزق يناسب المراهقين وجيل الشباب من الرجال والنساء ولكنها تفضله أكثر للنساء، ولكن الأهم أيضاً أن يليق بالجسم الذي يرتديه، فهو لا يتناسب مع الجسم القصير والجسم الممتلئ جداً.
ويتناسب بحسب مطر مع المناسبات العملية واليومية، مثلاً مع تيشرت بيضاء وجاكيت جلد أو جاكيت جينز وليس مهماً أن تكون بلون السروال نفسه، أو مع قميص فضفاض يوضع فوق البنطلون، وقد يناسب السهرات، ولكن شرط أن يكون التمزق مرتباً وليس مبالغاً فيه.
أما تقنياً فتخبر مطر أنه يوجد مكنات ليزر خاصة تقصه أو تمزقه بالطريقة التي نراها في الأسواق في الأماكن المحددة بحسب رغبة الشركة المصنّعة، ولا يمكن لتمزيقه منزلياً أن يعطي الشكل نفسه، لكن من الممكن بعد انتشار موضة المقصوص من أسفل من دون إعادة الخياطة أن ينجح في المنزل، بأن يقص بالمقص العادي ويغسل مرات عدة فتنسّل الخيطان.
اشتر جينزاً كاملاً!
لم تلبس مطر الجينز الممزق بشدة الذي يظهر نصف الساق، بل اكتفت بالممزق على الركبتين، ولم يستفز الأمر أهلها بعكس الكثير من الأهالي الذين استفزهم هذا المشهد.
فكان أبي يقول لي متهكماً “بابا ما عندك تياب”، ويقول لأمي “حرام خيطيلها أو رقعيلها الجينز”. ولم تنفك أمي تقول لي “نورية وغجرية” وأن ثيابي غير مرتبة.
سألت عدداً من الصبايا عن ردود فعل أهاليهن، فأخبرتني مي جبيلي أن والدها لم يكن يسمح بلبس الجينز الممزق لكن يبدو أنه فقد الأمل منها، وكان يسألها إن كان لديها المال لشراء جينز كامل، لكن والدتها لم تكن تعلّق على الأمر، وزوجها لا يرتدي الجينز الممزق ولا يزعجه جينزها الممزق الذي ترتديه في العطل، أو في السهرات مع كعب عال، لكنها تفضل أن يكون التمزق مرتباً وليس مبالغاً فيه. وتفضله واسعاً لتشعر بالراحة والقرب أكثر من الناس.
ربى الضيقة تقول إنه لم يكن أحد ممنوناً من لبسها للجينز الممزق لا أباها ولا أمها ولا زوجها ولا إخوتها الشباب. والدها كان يكتفي بالنظرة الغاضبة ويتغير لون وجهه ويهز برأسه، ولكن والدتها كانت تسأل دوماً “شايفة لوين واصلة الفتحة؟ مش بردانة؟ وما لزوم هذا اللباس؟”. أما زوجها فيسألها هل ستخرجين بهذا الشكل؟ هل تجدينه مناسباً؟ ولكن الضيقة كانت تجده مناسباً لها وترتاح له حتى أنها كنت تمزق الجينزات غير الممزقة أصلاً. لا يهمها مجاراة الموضة كما تقول ولا تعتبر الجينز الممزق أمراً عميقاً، لكنها تجده يبرز الجانب الأنثوي، وعندما تنظر إلى شخص يرتديه تشعر بأنه متحرر.
ليا عبد النور تلبس الجينزات الممزقة ويسألها والدها أين الجينز؟ ولديها جينز ممزق جداً حتى هي نفسها تسأل لماذا ترتديه. وتخبر عبد النور أن خطيبها أيضاً يرتدي الجينزات الممزقة التي يبدو أنه يفضلها على الجينز العادي. لا تعني لها فكرة التمزق لكن الموضة هي التي تعني لها، وتقول إنها لو فكرت بإمعان ستجد أنها مخطئة، ربما كونها تدفع ثمن الجينز الممزق أكثر من الجينز الكامل!
بقلم هلا كريّم