سواء جاء النقص الحادّ في توزيع قوارير الغاز بسبب الاعتصامات، أو تقف «أيادٍ خفيّة» وراء ذلك، الثابت الوحيد في هذه المعادلة متعدّدة المستويات ذات أكثر من مجهول، يكمن في أنّ «الدولة» (ضمن جميع تعريفاتها ومجمل ما نعرف من وظائفها) ليست فقط مجبرة على توفير هذه المادّة وغيرها، بل أساسًا ضمان التزويد بالمواد الأساسيّة والضروريّة على الأقلّ، مهما كانت الظروف ومهما كانت الموانع.
الصمت الصارخ
الدولة ضمن تعريفها الأبسط والمباشر تمثّل الضامن الأوحد أو بالأحرى الأعلى مقامًا لحياة قوامها الالتزام بالواجبات والتعهد بحقوق الآخرين. من ذلك، إضافة إلى الأضرار التي يخلّفها انقطاع توزيع قوارير الغاز على مصالح هذا الطرف أو ذاك، يأتي السؤال (المعرفي أوّلا) : أين الدولة من هذا «الحرمان» من ضروريات الحياة، حين يعتمد هذا الغاز للطبخ وذاك للتدفئة، والحال أنّ درجة الحرارة بدأت في الانخفاض.
يبدو أنّ «الدولة» وعلى رأسها أجهزة «التنفيذ» غائبة عن هذه الأزمة، وقد تركت الأمور تذهب نحو الأسوأ، وتنحدر إلى درك العنف والعنف المضاد، حين بدأنا نرى الجهات تتبادل الاتهامات : هذا يحجب الغاز وذاك يحاصر مستودعات الوقود، وثالث أغلق حنفية الماء ورابع طوّق موقع إنتاج البترول.
وجب الاعتراف
أوّلا : لم يرث رئيس الحكومة هشام المشيشي عند وصوله إلى قصر القصبة، ما ورثه رئيس حكومة فنلندا دولة الرخاء للجميع،
ثانيا : لا يمكن لأحد أن يطالب هشام المشيشي بأن يملك «عصا سحريّة» يقول بها للأشياء «كن فتكون»،
ثالثًا : هذه الأزمة لا تعدو أن تكون سوى نتاج تراكمات تعود لسنوات عديدة وبالتالي ليس بالإمكان أن نحمّل المسؤوليّة للمشيشي أو حكومته.
رابعًا : لم تفعل حكومة المشيشي شيئا سوى الترقّب والانتظار، كأنّ رئيسها يشاهد فيلم «تيتانيك» وهو غير معني بالمرّة بما ستؤول إليه الأحداث.
عصا بطعم الجزرة
لا أحد بمقدوره القول أو الادّعاء أنّ حلّ هذه المعضلة من الأمور السهلة أو اليسيرة. في المقابل، يمكن الجزم أنّ ترك الأمور تتعفّن يوما بعد يوما أو هي ساعة بعد ساعة، يجعل الأمور تتعقّد أكثر، وكلفة الحلّ تكبر.
من واجبات هشام المشيشي على اعتباره رئيس الحكومة، وقد قبل هذا المنصب طواعيّة وعلمًا بالمخاطر، أن يتحمّل المسؤوليّة ويوفّر ضروريات الحياة لمواطن غير ملزم على الاقتناع بما هي الخزعبلات التي يوردها أو يأتي بها ذاك.
ربط ما لا يُربط
من مساوئ هذه الطبقة السياسيّة الماثلة أمامنا أنّ جميعها دون استثناء، لا تميّز بين ما يلي :
أوّلا : الحدّ الفاصل بين الواجبات في معنى الالتزام بالمهام التي من أجلها جاء هذا أو ذاك إلى المنصب، سواء عبر الانتخاب أو التعيين، من جهة، وما هي طبيعة الصراع في أيّ ديمقراطيّة حيث التدافع، أو هو الضرب تحت الحزام كما يحدث راهنًا في تونس.
ثانيا : الخلاف أو الاختلاف الطبيعي داخل أيّ طبقة سياسيّة، وما هو ادماج المواطن أو بالأحرى مصالحه، حين يتمّ حرمان جهات بكاملها من قوارير الغاز.
المواطن لا ينسى ولا يغفر
الذي يراهن على تعفّن الوضع بحثا عن تحقيق مكاسب اقتصاديّة، كائن من كان، يرتكب خطأ فادحًا، حين يتخيل أنّ المواطن يفكّر مثلما يفكر هو، وسيتخذ القرار الذي يريد هو، مخطئ بالكامل، حين اليقين قائم أنّ من ركض أيّاما وانتظر ساعات نظير قارورة غاز، لن يقدّر جهد هذا ويكره جهد ذاك، بل سيكفر بمن يرى نفسه فاعلا أو مفعولا به.
بقلم نصر الدين بن حديد