كلّهم يدعون إلى حوار وطني.. ولكن على ماذا سيتحاورون؟!

انضمّ رئيس مجلس نواب الشعب، راشد الغنوشي، إلى طابور الدّاعين إلى حوار وطني شامل لعلّ الإخوة “كارامازوف” يتوصلون إلى حلّ للأزمتين الاقتصادية والاجتماعية اللتان تعصفان بالبلاد، وفي هذه الدعوة إقرارٌ بعجز الحكومة الحاليّة على معالجة جذور الأزمة يليها إقرارٌ ثانٍ بفشل “خلطتي” مشروعي قانون المالية التعديلي لسنة 2020 وقانون الماليّة لسنة 2021.
وسيكونُ من السخف بمكان تحميل المسؤولية لجائحة كورونا (لأنّها جزء من الأزمة لا الأزمة نفسها) أو لحكومتي إلياس الفخفاخ ويوسف الشاهد (كما يسعى حزب قلب تونس إلى إقناع الناس بذلك مستغلاً قناة نسمة، منبره الإعلامي)، لأنّ ما تعيشهُ تونس الآن هو حصيلة لعشريّة من العبث المطلق بمقدرات الدولة والشعب، تحت مسميات مختلفة. ولئن كانت فكرة الدعوة إلى حوار وطني شامل تعودُ إلى السيد مصطفى بن جعفر، الرئيس السابق للمجلس الوطني التأسيسي، إذ كان قد دعا إليها في منتصف شهر جوان الماضي، قبل أن يلتقفها منهُ أحمد نجيب الشابي، رئيس حزب الحركة الوطنية، وذلك قبل أسابيع من استقالة حكومة إلياس الفخفاخ والانطلاق في مشاورات تشكيل حكومة جديدة، نعلمُ كلّنا مآلاتها، إلاّ أن الفكرة عادت لتطرح بقوّة من قبل أحزاب سياسية كحزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب، ثمّ دخل الاتحاد العام التونسي للشغل على الخطّ مقترحا مبادرة يشرفُ عليها رئيس الجمهوريّة، وها هي حركة النهضة ممثّلةً في رئيسها راشد الغنوشي، تدخلُ لعبة “الحوار” من بوّابة “التوافقات” وخصوصًا من بوّابة “الخوف” من مآلات الاحتقان الاجتماعي. وما يبدو لنا واضحًا حقيقةً، أنّ كلّ واحد من هذه الأطراف يبحثُ عن “تأمين” مواقعه و”تفادي” تحمّل المسؤوليّة، كالعادة، ما يجعلنا نطرحُ هذا السؤال الحيّ: على ماذا سيتحاورون بالضبط؟

سيولة سياسية بلا أفكار

الحقّ أنّ الحوار يظلُّ شرطًا رئيسيا للخروج من الأزمة المركبة التي تعيشها البلاد. وإذ قلنا إنّها أزمة مركبة فذلك لأنّها في الأصل أزمةً سياسيّة بسمات اقتصادية واجتماعية وحتّى ثقافيّة. غير أنّ الامر برمّته يستوجبُ منّا شيئا من الدقّة، إذ أن التسليم بأهميّة الحوار في هذا الظرف، يفترضُ صراحةً الإقرار بفشل المنظومة السياسية برمّتها عن معالجة مشاكل البلاد، وإقرار كهذا يعني فيما يعنيه، أن المجموعة الوطنيّة صرفت المليارات على انتخاباتٍ أوصلت البلاد إلى نفقٍ مسدود. ولكن، من سيعترفُ بمثل هذه الحقيقة؟ من سيقرُّ بأنّ كلّ الوجوه التي تمّ تصعيدها في انتخابات 2019، في شقيها الرئاسي والتشريعي، فشلت في تنفيذ تعهداتها؟ ألا تعني الدعوة إلى الحوار “تفصيّا من المسؤوليّة” وبحثًا عن “توزيع الفشل بالتساوي”؟ ألا يفترضُ بالحوار أن ينطلق أوّلاً من تقييم شامل لا للسنة الفارطة فقط، ولا للعهدة الماضية، بل لشعر سنواتٍ تلاعبت فيها الأحزاب بمصائر التونسيين؟ من سينهضُ بمهمة التقييم؟ ومن سيقيّمُ ماذا؟ بل من ما سيقيّمُ من تحديدًا؟
لنتفق أوّلا على مسألة مبدئية، وهي أنّ الظروف التي استدعت عقد حوار وطنيّ في العام 2013، ليست هي نفسها التي تستدعي اليوم عقد الحوار الوطني الشامل الذي بات الكلّ يتنافسُ في الدعوةِ إليه، ومع ذلك ثمّة نقاط مشتركة بين المرحلتين، نقاطٌ لم تعالج إلى حدّ الآن وعلى رأسها ثقافة الاعترافُ بالمسؤوليّة.
لقد دفعت تونس خلال العشر سنوات الأخيرة ثمنًا باهظًا لما يمكنُ أن نطلق عليه دون مواربة اسم “السيولة الحزبيّة”، وهي سيولة عقيمة بلا أفكار أو برامج، ديدنها الوحيد “التمكينُ” وخلق “الأعداء”، طارحةً مشكلات البلاد في مستوى “بدائي” للغاية يمكنُ اختزالهُ في عبارة “أنا الأجدرُ بالحكم ولو كلّفني ذلك سحقُ خصومي”، غير أنّ هذا الشعار راكم وراءهُ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية حتّى بات إنقاذُ البلاد يحتاجُ إلى معجزة حقيقية.

الأسامي هي.. هي..

وإذ كانت أزمة العام 2013، أزمة “حكم” صريحة بعد رفض الترويكا التنحيّ وتشكيل حكومة كفاءات تعهدُ إليها مهمة قيادة البلاد إلى انتخابات حرّة، فإنّ أزمة العام 2014 انطلقت، شئنا أم أبينا، من حكومة كفاءات عهدت إليها معالجة أزمات البلاد الاقتصاديّة والإجتماعيّة، رغم أنّ ظروف تشكيلها تخضعُ بدورها إلى أزمة “حكم” صريحة. بمعنى أننا لم نغادر الخان، حسب التعبير الفرنسيّ، ذلك أنّ الأزمة الحالية هي في جوهرها أزمةُ حكمٍ صريحة، توزعت فيها المسؤولية بين رئاسات ثلاث “متنافرة”، تحرّكها نوازع أيديولوجيّة وتنفيذية متصادمة، حدّ أن بعضها راح يرفعُ من سقف مطالبه عاليًا إلى درجة التدخّل المباشر في صميم صلوحيّات غيرها. وفي مناخٍ من عدم الثقة كهذا، سيكونُ من الطبيعي أن تصاب الدولةُ بالشلل التام، ولو أضفنا إلى ذلك شحّ الأفكار الذي تمّ تعويمهُ بميكانيزمات الصراع السياسي المفتوح، سنصلُ على نتيجة مفادها أنّهُ لا يمكنُ بأية حال عقد حوار بوجوه الأزمة نفسها، لا سيما وأن كلّ طرفٍ فيها يرفضُ تحمّل المسؤولية.
وفي الواقع، تبدو مساحات التنافر شاسعة بين أطراف الأزمة في تونس، فرئيس الجمهوريّة أعلنها صراحةً أنّه لا يثقُ في الأحزاب السياسية، ويتعامل مع بعضها مجبرًا (حركة النهضة ورئيسها، راشد الغنوشي، باعتباره رئيس مجلس النواب) بل ويصرُّ على عدم التعامل مع بعضها (قلب تونس، وائتلاف الكرامة، والدستوري الحرّ)، فضلاً عن كونه لم يغفر ما فعلهُ هشام المشيشي الذي انقلب عليه يومًا قبل نيل الثقة وخيّر النوم سرير أعدائه على سريره الرئاسيّ، رغم أنّه هو من اختارهُ. ولو أضفنا إلى كلّ ذلك البراديغمات التي يتشكّلُ منه فكره السياسي (تغيير النظام السياسي برمّته، ومعه النظام الانتخابي)، نفهمُ سرّ بروده حينما عرض عليه الاتحاد العام التونسي للشغل مبادرتهُ.
من جهتها، ثمّة أزمة ثقة عميقة بين “حركة النهضة” وجلّ الفاعلين في المشهد السياسي علاوةً على المنظمات الوطنية وغيرها، والكلّ تقريبًا يحمّلها مسؤولية العشرية السوداء التي عرفتها البلاد، فيما ترفضُ هي الإقرار بمسؤوليتها عن حقبة لم تغادر فيها موقع الحكم سواءً بطريقة مباشرة أو عن طريق الائتلافات الحكوميّة، وتسعى في كلّ مرّة إلى خلق عدوّ وهميّ تحمّلهُ مسؤولية الإخفاقات المتتالية.
أما فيما يخصّ بقيّة الأحزاب السياسيّة، فالأمرُ لا يحتاجُ تدقيقًا في ممارساتها، لنقف على حقيقة أنّ كل ما يعنيها هو “التموقعات” القادمة لا الخروج من الأزمة نفسها. وهي في ذلك، لا تختلف البتّة عن حركة النهضة سواء في رفضها منطق تحمّل المسؤولية (كالتيار والشعب الذين عاشا تجربة الحكم تحت إلياس الفخفاخ) أو في دفع الأوضاع إلى الـتأزّم أكثر (قلب تونس، ائتلاف الكرامة والدستوريّ الحرّ)، وبالمحصّلة، تشتركُ جلّ الأحزاب البرلمانية في نقطة واحدة على الأقلّ، وهو التفكيرُ في الحدّ من خسائرها الانتخابية، خصوصًا واستطلاعات الرأي تطرحُ خارطة جديدة، مفتوحةً على المجهول تمامًا.
في ما يخصّ المنظمات الوطنية، كاتحاد الشغل ومنظمة الأعراف، لا تبدو الصورة ورديّة عندها أيضا، ذلك أنّ منقسمة بين منظوريها، عمالا ومؤسسات الذين تحملوا النصيب الأوفر من تداعيات الأزمة الحالية، خصوصا في شقها الوبائي، وبين مراعاة إمكانيات دولة تشارفُ على الإفلاس، ما يعني بداهةً، أن كلّ خطوة يخطوها الاتحاد او منظمة الأعراف في هذا الاتجاه أو ذاك، تعدُّ مغامرة محفوفةٍ بالمخاطر.
ولكلّ هذا نتساءل عن “المعنى” الكامن في هذا الحوار الذي يدعو إليه الجميع، وجلّ دعاته يتحمّلون سيولة الاخفاقات التي تعاني منها بالبلاد. فعلى ماذا سيتحاورون إن كانت روح الغَلَبة والتملّص من المسؤولية هي ما يسيطرُ على أجنداتها، وما يحولُ دون تقديم التنازلات الضرورية التي تحتاجها البلاد لتعبر هذا الكابوس؟  وأيّ جدوى من حوارٍ لا يسبقه تقييم صارم وصادق لكامل عشرية الضياع؟ بل أيّ جدو من حوارٍ، نعرفُ يقينا أنّ كلّ الداعين إليه يناورون كيلا يقع تحميلهم-شعبيا- مسؤولية الأوضاع الحاليّة؟
في تقديرنا، المسألةُ لا تحتاجُ إلى إجابات، هي معلومة سلفا، قدر ما تحتاجُ إلى وقفةٍ حقيقية مع الذات…وفي غياب لحظة المصارحة تلك، لن تشهد البلادُ سوى مزيدًا من الوقت المهدر في ما لا يعني، وتفويتًا لفرص حقيقية تعالجُ المشكلات، كلّ المشكلات، من جذورها.

Comments are closed.