ما زلنا نعيش في تونس تحت وطأة الموجة الثانية لجائحة الكورونا التي انطلقت في الخريف الماضي من مدينة يوهان الصينية .. إنها الكارثة القادمة بخطى ثابتة لتقذف بالأرواح نحو المقابر أمام عجز التصدي لهذه الجائحة بقطع النظر عن أسبابها وخلفياتها .. لكن المرجح أننا لم نحسن التعاطي مع تطور انتشارها في ربوعنا ..
أفادت الإحصائيات انّ الضرر متفاوت من جهة إلى أخرى في العالم ومن منطقة إلى أخرى في تونس لكن التحولات البيئية تؤكد أنّ هنالك قناعة بوجود خلل في طريقة التعاطي مع الجائحة في تونس .. فمن الحجر الموجه إلى الحجر الشامل كانت قرارات الحكومة عرجاء ويستوجب المراجعة ..
من ذلك فقد وصلت الجائحة في تونس إلى تسجيل صفر حالة في أربعة أشهر وما إن وقع فتح الحدود لأسباب نعرفها جميعا حتى عدنا إلى تسجيل أرقام قياسية يوميا تنبئ بالكارثة المحتمل وقوعها .. فمن خلال الوفايات المسجلة وحالات التعافي التي نجهل تحديدها تأتي الأرقام مفزعة في غياب دراسات موضوعية واضحة تهم خصوصيات بلادنا تونس..
لم يلجأ أهل القرار في تونس إلى تحديد أسباب الوفايات بعرض الجثث على قسم التشريح وتحليل الانسجة وارتبك الجميع أمام العناية بالجثث في مواكب الدفن المهين للعائلات من خلال قرارات لجنة علمية غاب فيها الإخصائيون في علوم الفيروسات وحضر فيها أخصائيون في أمراض الدم والمناعة والبكتريولوجيا ووزير غائب عن الوجود ..
سطع إسم الدكتورة نصاف بن علية ونفخ إعلام الراوطية في صورتها في خين أنها قادمة من مصلحة الاحصاء في معهد باستور حتى خلنا أنّنا ننتظر الفتح المبين منها ولكن حدث العكس .. لم نعد نسمع عن وفايات أمراض السرطان والسكتة القلبية والدماغية غيرها من أسباب الوفايات وأصبحت جميعها تتلخص يوميا في الكوفيد ولا غير الكوفيد..
ولئن إزدهرت تجارة مقاولات المقابر خلال هذه الجائحة فإنّ جهل المواطن بأسباب الوفاة وتداعياتها بقي مدقعا.. وعلمنا أن الكوفيد يأخذ مأخذه في تقص مناعة الشخص ليفتك بصاحبه وهي نتيجة حتمية أمام سوء التغذية الناتج عن غلاء الاسعار وإزدياد التوترات التي تقضي على مناعة الانسان مع اعتلاء الصحة والتقدم في السنّ..
لم تجتهد اللجنة العلمية في وزارة الصحة في تبليغ معلومات دقيقة حول انتشار المرض ومدى تطور ضرره بصحة الإنسان وكذلك غابت المعلومات حول مدى مراقبة أثر المرض على الصحة عموما والذي يبدأ بإهتراء جهاز التنفس.. ولم تتضح الرؤية حول التحاليل الواجب القيام بها لمراقبة الحالات المعروضة ما عدى الاكتفاء بإختيار PCR المستورد وفيه نوعان “الاختبار السريع والاختبار العادي” وكلاهما لا تتجاوز مدة إنجازه في المخبر الساعتين أو ثلاثة في حين يتحصل المريض على النتيجة بعد ثلاث أو أو أربعة أيام وهي مهلة كافية لمزيد أنتشار الجائحة للحالات الايجابية ولا نحكي هنا على تعريفة التحليل التي اتخذ منها أصحابها وسيلة لاستغلال الظرف بالجشع .. كل ذلك يدخل في باب الانتهازية المقيتة حتى بلغ ثمن الإيواء في المصحات الخاصة يخضع الى المضاربات المقيتة ..
من هنا إجتهد الأطباء الخواص ووجدوا طريقة لرفع الضغط عن المستشفيات والمصحات الخاصة وهو ما اقتضت الضرورة بالعلاج في بيت المريض حيث أثبتت التحاليل البيولوجية أنه من السهل تشخيص المرض في بدايته باللجوء إلى عينات من الدم NFS و CRP و CPK و D-Dimere و Fibrinogene مما يجنب المريض مصاريف أضافية ترهق كاهل عائلته ويسرع لمعالجته طبق بروتوكول واضح المعالم مع المراقبة المخبرية قبل الحصول على نتائج PCR المعطل بطبعه في المختبرات الاستشفائية التي لا تعمل عاديا في عطلة نهاية الأسبوع والأعياد التي لا تعطل انتشار الكوفيد..
وإذ تعود قلة وسوء التنسيق في وزارة الصحة إلى تشبث كل فريق مشرف جديد في الوزارة على النتائج الحينية التي تتماشى مع أهدافه السياسية والحزبية الظرفية التي تغيب فيها الاستراتيجيات المنتظرة واعتبار وزارة الصحة وزارة في خدمة السياسة والأحزاب في حين أنها وزارة تقنية تعتمد على الرؤية المستقبلية لتهيئة مستلزمات التصدي للأزمات التي تقتضي منّا سلوكيات تضامنية لأننا في حرب دائمة ضد المرض وعوارضه..
لم تكن تونس متهيأة لمجابهة جائحة خطيرة مثل الكوفيد 19 التي تقضي على ضعاف الحال وتزيد في تعكير ظروفهم الاجتماعية التي لم تأخذها بعين الاعتبار توصيات اللجنة الطبية في وزارة الصحة التي أضرت بالظروف المعيشية للطبقات الكادحة في غياب صندوق البطالة أمام قرارات الحجر الشامل أو الموجه العشوائية..
كيف يقع إختصار لجنة طبية في وزارة الصحة على الأطباء الاستشفائيين دون تشريك الأطباء الخواص من مختلف الاختصاصات ؟ أين النشريات العلمية حول مدى إنتشار الكوفيد 19 في تونس وسبل التصدي له ؟
قد يبدو هذا السؤال غبيا في غياب محاضر جلسات اللجنة الطبية العديدة والمتكررة ولكن غياب الجدية المفقودة أمام الامكانيات المادية المتوفرة زادت في تعميق اليأس من نجاعة هذا اللجنة العلمية التي اكتفى أصحابها بالتمتع بالإمتيازات الموجودة من سيارات فخمة على الذمة وسفريات عديدة إلى شتى أصقاع العالم لحضور الندوات والملتقيات الدولية لأناس ركزوا إهتماماتهم على تجميع ومقارتة نتائج إحصائيات تداعيات جائحة الكورونا في تونس أمام الاكتظاظ الملحوظ في وحدات الإنعاش في مستشفياتنا والتي ما كان لها أن تقع لو أحتكم الجميع إلى اللجوء إلى الوقفة الحازمة التضامنية التي تقتضي الاستشفاء اليومي في بيت ومقر المريض مع توفير مستلزمات آلات التنفس بالاكسجين المضغوط التي توفرها الشركات الخاصة على وجه الكراء “Air liquide ” و Oxymetre لقيس مدى نجاعة التنفس..
كلنا مسؤولون على تقهقر الوضع الصحي الحالي نتيجة سوء التقدير وقلة الوعي مع ضغوطات الإمكانيات المادية الخاصة والعامة .. ولا يسعنا في هذا الصدد أن نطلق صيحة فزع لتحميل الأسوء المنتظر حدوثه أمام جشع المتربصين بالوضع الصحي للمواطن الذي أصبح فريسة لنهم وأنانية بعض المستثمرين الخواص في القطاع الصحي حتى بلغت كلفة إيواء المصاب الكوفيد 63 ألف دينار للمريض الواحد حتى تسترجع عائلته جثة مريضها من قسم الأموات..
كل ذلك حدث أمام تناقضات الإجراءات الوقائية المتخذة من حيث ارتداء الكمامات والتباعد الجسدي وغلق المقاهي والمطاعم والمساجد دون مراعاة الاكتظاظ في وسائل النقل والمدارس والمعاهد والاسواق والمساحات الكبرى والانهج التجارية وغيرها من الأماكن العمومية ..
ماذا أحضرت وزارة الصحة للمريض الذي يكتشف فجأة أصابته بالكوفيد غير النحيب وكأنه صدر ضده حكم بالإعدام عند إعلامه بتحليله الايجابي خاصة وأنّ طاقة استيعاب المرضى محدودة جدا في مستشفياتنا ؟
ورغم ذلك لابد من الإقرار بالمجهود الجبار الذي تقوم به الإطارات الطبية والشبه طبية في مجابهة الأزمة التي ينقصها التنسيق وحسن التصرف في الطاقات والامكانيات المتوفرة ..
د. الصحبي العمري
عميد شبكة المدونين الأحرار