الحب الحالة السامية والنبيلة من المشاعر، قد تتحول أحياناً إلى سبب غير مباشر لألم غير متوقع؛ وذلك حين يحدث أحياناً أن يعطي ثمرته خارج إطار الزواج روحاً حيةً تفتح عينيها لرؤية ضوء الشمس بعد تسعة أشهر من علاقة حميمة استمتع بها العاشقان لدرجة أنهما نسيا إجراء أي تدابير احترازية تسفر عن إلقاح بويضة الأنثى في الرحم.
الأنثى غالباً من ستتحمل العبء وحدها دون عشيقها، الذي يتملص في أحيانٍ كثيرة ويهرب من مسؤوليته تجاه فعلته، تاركاً معشوقته تواجه أهلها والمجتمع وحدها، واللذين لن يرحماها بدورهما، ولن يتوقفا عن اضطهادها وتعنيفها والتنمر عليها، هذا إن لم يقتلها الأهل بدافع الشرف أو درءاً للفضيحة!
صبا فتاة في الحادية والعشرين من عمرها، ذكية فطنة، جرحتها الحياة جراحاً عميقة لا يمكن أن تندمل، تدرس في الجامعة ومتفوقة في دفعتها، ذات قدر ضئيل من الجمال أو شبه معدوم. تروي قصتها قائلة: “ولدتُ نتيجة علاقة حميمة بين أمي وحبيبها الذي هرب بمجرد معرفته بأمر حملها، وتنكّر لها ولحبه ولي. فلم يكن أمامها ملجأ سوى عائلة جدي الذين عنفوها بما فيه الكفاية، ولم يجدوا حلّاً لإجهاضها، فوُلِدتُ! عشتُ مع أمي في بيت جدي، وبعد بضع سنوات تزوجت أمي إلا أن زوجها لم يرضَ أبداً أن يسجلني على اسمه. فسجلني جدي على اسمه وصرتُ أخت أمي في دوائر الدولة. أنجبت أمي ابنة ثانية (من علاقتها ‘الشرعية’ هذه المرة) وبالطبع كانت امتيازاتها أكثر بكثير من امتيازاتي. دخلتُ إلى المدرسة وتفوقتُ فيها، رغم المضايقات والتلميحات التي تعرضت لها من قبل التلاميذ، ولكنني استطعت التغلب عليها وإتمام دراستي. منذ سنوات توفيت أمي بعد أن أوصت أختي بي قائلة: “لا أريد منك شيئاً؛ فقط أوصيكِ بأختك، انتبهي لأمرها ولا تتركيها!” مضت أكثر من سنة على الوفاة وكثرت شجاراتي مع أختي حتى انتهت إلى قطيعة نهائية بيننا، هي الآن متزوجة ولا نتحادث أبداً”.
وتواصل حديثه: “الآن لا أحد يعترف بي، جدي اكتفى بتسجيلي على اسمه ولكنه لم يمنحني أي امتياز آخر، فلا يُسمح لي بالسكن معهم ولا يعينني في مصروفي، لذا أنا وحيدة دائماً، أعيش في السكن الجامعي منذ دخلت الجامعة، صيفاً شتاءً، إنه بيتي الوحيد، ولا أدري أين سأسكن بعد التخرج! الأمر مخيفٌ حقاً، فأجور البيوت مرتفعة ولا طاقة لي عليها. أعطي دروساً خصوصية للطلاب وهي مورد معيشتي الوحيد”.
وتتابع: “تعرضتُ مرات عديدة إلى اتهامات مزيفة بسبب بنات أعرفهن ولو من بعيد قمنَ بأمور غير قانونية أو مشبوهة، وجاءتني اتصالات تهديد عديدة، حتى وصل الأمر بالبعض إلى تبليغي بلاغاً كاذباً عن أن الأمن يطلبني للتحقيق معي في قضية إحدى الفتيات، بينما لا يوجد بلاغ حول ذلك، عشت أيام رعب حقيقية حتى مضى الأمر، وتأكدت من الكذبة! المستقبل مخيفٌ جداً بالنسبة إليّ، لا سندَ أتكئ عليه ولا معيل، دفعتُ ثمن متعة والديَّ دون ذنب، أنا التي لم أكن على وجه الأرض حين ارتكبا فعلتهما ولم أساهم بها أبداً، ولم أعطِ رأيي بها حتى، كيف يحملونني وزرها إذاً؟ أما كان لديهم في الصيدليات واقياً ذكرياً حينها، أو حبوباً لمنع الحمل؟! لمَ لم يقوما بأي إجراء احترازي في تلك المرة لمنع تلقيح بويضتي التي نشأت منها؟ ما أجهلهما! لم يفكرا بأي عاقبة، ولم يعيا ضرورة الحرص على عدم حمل أمي، جاءا بي إلى هذه الحياة من أقسى طريق لأعارك مطباتها وحفرها وحدي، لن أسامحهما أبداً!”.
وتختم حديثها: “حين أفكر بالأيام القادمة أخاف جداً، ولا أجد حلاً أو مخططاً لها، أفكر بالسفر خارج سوريا، لكن قبول الدول الأخرى لنا غير مضمون أبداً، لاسيما في الظروف الراهنة. في الحقيقة الأمر مخزٍ ومذلٌّ وموجعٌ، ومقلق أيضاً، فماذا لو أُغلقت كل الأبواب في وجهي في السنوات القادمة؟ ماذا سأفعل؟ أنا لا أجرؤ أن أحلم بالزواج حتى! بل وحتى إن رضيت أن أكون بائعة هوى فأنا لا أصلح لذلك، أنا أعرف مؤهلاتي الداخلية والخارجية، وعلى الرغم من ميزاتي الداخلية الجيدة لكن في أمور وأعمال كثيرة للشكل دورٌ هام، ومن الصعب أن يتنازل أرباب العمل عن هذا الشرط في مهن عديدة”.
صبا مثل كثيرات غيرها، جئن إلى الحياة من الطريق الوعر ذاته، وكل منهن سلكت درباً متفرعاً، لكن ولا واحد منها كان سهلاً. أي جرائم ارتكبتها هذه الفتيات؟ أي دمٍّ تغمّست أيديهن فيه حتى يحظين بهذه القسمة من ظلم الدنيا والمجتمع؟
أليست قوانين الدولة هي المسؤول الأول عن هذا الاضطهاد الذي يمارسه المجتمع على من يسمونهم بـ “أولاد الحرام” حين لا يسمح للأم بتسمية أبنائها على اسمها في ظل تنصّل الأب من مسؤوليته؟
في مجتمع يجعل الشرائع الدينية المتشددة الخاص به لقياس صحة أو خطأ أي عمل، لن يستطيع تجاوز الإشارة الحمراء بالخطر والتي يعطيها جهاز “السكانر” الخاص به، وكأن أفراده آليون مبرمجون على نتيجة واحدة، لا يعدّلونها ولا يغيرونها. وإن ارتكب أحدهم أي خطأ فإنهم يحمّلون مسؤوليته لعائلته كلها، ويتركونهم يدفعون ثمن ذلك طوال حياتهم؛ حياتهم هذه التي يحولها المجتمع فقط إلى جحيم، على الرغم من أنه لم يتأثر أبداً بهذا الفعل. لكن نزعة الإنسان إلى التسلط لا تتوقف.
أليست قوانين الدولة هي المسؤول الأول عن هذا الاضطهاد الذي يمارسه المجتمع على من يسمونهم بـ “أولاد الحرام” حين لا يسمح للأم بتسمية أبنائها على اسمها في ظل تنصّل الأب من مسؤوليته؟
لماذا نعالج الخطأ بخطأ أكبر، تنتج عنه سلبيات أكثر، بدل أن نحاول إصلاحه بأفضل السبل؟ الأمر ليس صعباً، فبضعة قوانين إنسانية تعطي لهذا المولود بلا هوية أب، حقوقه الشرعية ليتساوى مع غيره، ستكون كفيلة بتخفيف قسوة الحياة التي سيعيشها بين أفراد مجتمعه، وستخفف من عقده التي سيخلقها نبذ المحيط له وإشعاره بأنه أقل قيمة وميزة عن غيره من أبناء المجتمع الذي يصنفه في هذه الخانة؛ خانة ابن الزنا؛ الأكثر دونية في المجتمع! فلا يتوقف الناس عن رفضهم ونبذهم ومحاكمتهم، مع أن المجرمين الحقيقيين يجلسون على موائدهم بترحاب!