“هذه فرحة الانتصار، ففي هذه اللحظة رأيت حُلمي يتحقق بعد سنوات من التشكيك فيه”، هكذا وصف المحامي اليساري والحقوقي التونسي عبد الناصر العويني الفيديو الذي تداوله رواد مواقع التواصل الاجتماعي له قبل 10 سنوات، وهو يهتف “بن علي هرب، تحيا تونس الحرة، المجد للشهداء، ما عدش نخاف، اتحررنا، يا توانسة اتنفسوا الحرية”.
صٌور هذا الفيديو يوم 14 يناير/كانون الثاني من عام 2011، أي بعد دقائق من الإعلان عن مغادرة الرئيس التونسي آنذاك زين العابدين بن علي للبلاد.
ويقول العويني إنه بمجرد سماع الخبر “لم أتمالك نفسي، نزلتُ مسرعا وبشكل تلقائي لشارع الحبيب بورقيبة، للاحتفال برحيل بن علي، في المكان نفسه الذي تظاهر الناس ضده فيه، لم أفكر في أي شيء سوى الشهداء الذين سقطوا، وبرحيله عاد حقهم، وظللت أهتف وحيدا هناك مدة 40 دقيقة على أمل أن ينضم متظاهرون آخرون لكن لم يأتي أحد”.
وتم تصوير هذا الفيديو خلال ساعات حظر التجوال، الذى كان مفروضا في البلاد منذ 12 يناير/كانون الثاني من موقعين: من شرفة أحد المنازل المطلة على شارع بورقيبة، ومن جانب مجموعة من الشباب الذين كانوا يقيمون في فندق في الشارع نفسه ونزلوا للشارع ليروا ماذا يحدث.
ويحكي المحامي التونسي: “لم أكن مدركا ما يحدث حولي من سعادتي، فالشارع صار ملكي، وأستطيع أن أعبر عن نفسي بحرية إذ لم يعد يراقبني أويتتبعني أحد”.
ويضيف أن ما كان يسيطر عليه في تلك اللحظات “كيف تمكن التونسيون من مواجهة القمع الشرس الذى تعرضوا له بسلمية؟ وكيف تمسكوا بالمواجهة حتى حققوا مطالبهم؟ فالنظام وبوليسه وأدواته وحزبه وإعلامه انهاروا، أمام الشعب الأعزل المسلح بالإرادة والإيمان”.
وكان يوم 14 يناير/ كانون الثاني صعبا بحسب عبد الناصر، فقد خرج في الصباح مع نحو ألف محام آخرين في تظاهرة بزي المحاماة من أمام قصر العدالة بالعاصمة، مرورا بالمدينة العتيقة وانضم لهم ما يقرب من 10 آلاف مواطن، ليدخلوا بعد ذلك شارع الحبيب بورقيبة الذي كان ممتلئا بالمتظاهرين القادمين من كل الولايات التونسية.
ويقول العويني وجدت نفسي محمولا على الأكتاف أهتف “خبز وماء و بن علي لا”، أمام وزارة الداخلية محاطا بالآلاف فـ “أدركت وقتها أنه لا مجال للرجوع، و أن التونسيين مصرون على التغيير”.
وجاءت هذه التظاهرة غداة خطاب لبن علي كان الثالث منذ بدء الاحتجاجات، وأعلن فيه أنه لن يترشح لانتخابات 2014، وتعهد بإصلاحات ديمقراطية وبإطلاق الحريات العامة.
ويؤكد العويني أن الحشد في هذا اليوم كان أهم من أي وقت مضى، للرد على “المسرحية التي نظمها بن علي وأنصاره وحزب التجمع الدستوري الديموقراطي في يوم 13 يناير/ كانون الثاني، فبعد خطاب بن علي خرج أنصاره للتعبير عن فرحتهم بتعهداته”.
وكان العويني مشاركا في التظاهرات في تونس منذ اليوم الأول، فبعد حرق البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر/كانون الأول من عام 2010، اجتمع العويني ونحو 7 محامين آخرين بشكل سري يوم 24 من الشهر عينه في مكتب المحامية راضية نصراوي، وأنشأوا لجنة سرية لمساعدة أهالي سيدي بوزيد، وتشكيل جبهة للدفاع عن المعتقلين منهم بعد التظاهرات التي وقعت في الولاية.
وبعدها بـ 3 أيام نظموا وقفة أمام قصر العدالة في العاصمة، احتجاجا على قمع التظاهرات التي انضم إليها الآلاف من المواطنين ورفعوا شعار “يا قضاء عيب عليك الطرابلسية يحكموا فيك”.
وكل ذلك قاد إلى اتساع نطاق الاحتجاجات لتصل العاصمة في 12 يناير/كانون الثاني.
لكن هل استمرار التظاهرات حتى 14 يناير/كانون الثاني كان يعبر عن يقين المتظاهرين برحيل بن علي؟ يقول العويني “لم يكن أحد يتخيل أنه سيهرب بهذه الطريقة وبهذه السرعة، كانت لدي قناعة أن النظام انهار وأن أيامه باتت معدودة، لكن هذا السيناريو تحديدا لم يخطر على بالي ولم يتوقعه أحد”.
ويضيف العويني: “بمجرد الإعلان عن مغادرته البلاد كنت متأكدا أنه لن يعود، فهو غادر تحت تأثير تطور الأحداث والمقاومة الشعبية السلمية وليس مؤامرة مثلا، كما أنه لم يكن يغادر البلاد كثيرا طوال 23 عاما حكم فيها تونس، وحتى في المناسبات الرسمية، كان يرسل الوزير الأول – رئيس الوزراء – أووزير الخارجية. فهو كان يشك في أقرب الناس له، ولهذا كان يفضل أن يبقى في تونس ممسكا بزمام الأمور”.
واعتبر عبد الناصر سقوط نظام بن علي “انتصارا شخصيا” حلم به، منذ بدء نشاطه السياسي في صفوف اليسار في المرحلة الثانوية، مرورا بالجامعة عندما كان ناشطا وقياديا في الحركة الطلابية، وفي الاتحاد العام للطلبة التونسيين في التسعينيات أي وقت “عسكرة الجامعة والقضاء على العمل الطلابي فيها على يد بن علي”.
وفي عام 1998، اعتُقل من بين سبعة طلبة بسبب نشاطهم الطلابي وحكم عليهم بالسجن لمدد تراوحت بين 10 شهور وسنتين، إلا أنه تم العفو عنهم بعد شهرين، قبل أن تعاد محاكمة العويني وحده في نفس القضية والحكم عليه بالسجن لمدة تسعة أشهر.
وخاض بعدها معركة لإعادة تسجيله بالجامعة، واستمر على نهجه في دعم النشاط الطلابي حتى حصل على شهادة الماجستير في الحقوق عام 2004 والتحق بسلك المحاماة في 2005.
وبدأ رحلته كمحام حقوقي منخرط في الحراك الشعبي على كل مستوياته، ومناصر لقضايا العمال والحقوقيين والمعارضين في احتجاجات الحوض المنجمي عام 2008، وقضايا الطلبة الذين تم إيقافهم ومحاكمتهم على خلفية نشاطهم الطلابي، كما كان من المحامين المدافعين عن قضية “الصحفيين الأحرار” الذين اتهموا في عهد بن علي بإثارة الرأي العام في فبراير/شباط 2010.
وبعد 10 سنوات من رحيل بن علي، يرى العويني أن “الثورة انحرفت عن مسارها، فالثورة رفعت شعار شغل – حرية – كرامة وطنية، وهي أمور مرتبطة ببعضها، فلا حرية بدون كرامة وطنية، ولا كرامة وطنية بدون شغل”.
“وبعد الثورة، تُرك التونسيون يعانون العوز مما يحد من حريتهم وينتقص من كرامتهم. فالبلاد لا تزال تعيش في ظل النمط الاقتصادي والاجتماعي نفسه، بالتركيبة عينها والسياسة غير العادلة ذاتها التى تعطي الأقلية امتيازات على حساب الأغلبية وهي السياسة التي كان يتبعها نظام بن علي”.
ويعزو ذلك إلى أن “انعدام الكفاءة السياسية شجع على اختزال زخم الثورة في عملية تحول سياسي فوقي. وهي عملية حاول فيها السياسيون تغيير المشهد السياسي وتغيير كيفية إدارة السلطة، دون ربط ذلك بمنجزات اقتصادية واجتماعية تغير نوعية حياة التونسيين، وهو ما اتضح في أول انتخابات بعد الثورة والتي أجريت في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 “.
رغم ذلك لم يندم العويني على المشاركة في “ثورة الياسمين”، وأكد أن “واقعنا محبط بالنظر لتوقعات ما بعد الثورة، لكن ما حدث ملك للتاريخ وما نعيشه اليوم يعد في إطار التطور التاريخي، وعلينا تقييم واقعنا وفتح الآفاق لتطوير البلاد وتحسين حياة الناس”.
وترشح العويني لانتخابات المجلس التأسيسي 2011، والذي كان منوطا بمهمة التشريع وكتابة الدستور الجديد عام 2011 لكنه لم يفز. وتغير مفهوم عبد الناصر عن سبل النضال من أجل التغيير بين 2011 واليوم كثيرا.
ويقول: “كنت مؤمنا بأن تغيير الواقع يمكن أن يتحقق بالنضال اليومي، والضغط على السلطة ومؤسسات الدولة، حتى بعد انتخابات أكتوبر/تشرين أول 2011 التي انهزم فيها التقدميون واليساريون أمام الإسلاميين”.
“لكن بعد اغتيال اليساري شكري بلعيد في 2013، بت أرى أنه لا يمكن تغيير الواقع إلا من خلال الوصول إلى سدة الحكم ببرنامج قادر على تقديم مكاسب حقيقية للشعب”.