بالحسابات الباردة جدا والبعيدة جدا عن اعتبارات الفكر والسياسة والتحزّب يحصل الآن في تونس أقلّ ما يمكن أن يحصل. لو تضاعفت ردّة فعل المجتمع التونسي وأجياله الشابة مرّة بعد مرّة مقارنة بما نرى هذه الأيًام فلن تكون مفاجأة الا اذا حسبنا أنًها تكون كذلك. بورقيبة وبن علي كانا على الأقلّ يفهمان أنّ السّياسة متّصلة بالمُجتمع. استبدّا هذا صحيح ولكنّهما لم يعوّلا مطلقا على الإستبداد للبقاء. أقصد أنّهما ناورا ونافقا ووازنا وحرصا على توفير حدّ أدنى يمنع اصطداما كلّيا بالمجتمع. اصطدما بالنخب لأنها كانت تطمح في السلطة مسكا بها أو مشاركة فيها. عندما بلغ الاصطدام بالمُجتمع حدّه الأقصى سقط النظام وكان ذلك آخر 2010. مفردة المجتمع غائبة تماما عن الذين ورثوا بن علي باسم الثورة وبلغوا السلطة بالانتخابات. كل التفكير في السلطة وكيفية ليّ المنافسين عليها وغنم المواقع والمصالح. هي نخبة سياسية لم تعارض بورقيبة وبن علي لحساب النّاس ومن ضمن مشروع نهوض بالمجتمع. عارضت لتكون هي بورقيبة وهي بن علي. وعليه فهي لا تختلف ذهنيا وتصوّريا عن الذين عارضتهم معتمدة تأليبا ماكرا للمجتمع على بورقيبة وبن علي. سقط بن علي ولا أسف عليه ولكن ما نراه يسقط اليوم أوسع بكثير من بن علي. السياسة تسقط الآن لأنّ جلّ المشتغلين بها منذ عشر سنوات سقّاطٌ لا يخجلون. سقوط ساسة لا يفهمون في ناموس دولة ولا يعنيهم ألم مجتمع. أعتبر نفسي من ذوي الدّخل المحترم ولكنني كلّ ما قصدت السوق لأقتني بعض بضاعة أغرق في حيرة مخيفة تعصرني صدقا. ذلك أنني أسأل: ماذا عن الذي لا دخل له الا دنانير لا تُحسب؟ في الطريق الذي يفصلني عن مقهى الحيً والذي لا يبعدني الّا أمتارا قليلة يقصدني أكثر من متسوّل حتى أنني أصبحت أهرب من المتسوًلين لا شحّا ولكن لأنّ مشهدهم يؤلمني. أرى فيهم صورة فشل جمعي يكبر يوما بعد يوم. غبت شهرين عن هذا الفضاء. كنت أطبّب نفسي وأرعى أعصابي لكي لا تُفلت منًي ولم أجد لذلك أفضل من الابتعاد عن فضاء وهم هو فيسبوك. أعود بهذه التدوينة فقط لأشهد أنّ ما تشهده شوارع تونسية عديدة من مظاهر حنق واحتجاج وردّ فعل أقلّ المنتظر وأنّه طبيعي بالنظر لما تراكم من مقدّمات. في النهاية، لا بدً للمكبوت من فيضان. كبت المجتمع رغيفه وغده ومستقبل شبابه. هو كبت لا علاقة له بكبت النخب ونحن نرى منذ عشر سنوات في البرلمان وعلى الشاشات وعبر المقالات والتدوينات كيف يكون كبت النخب وكيف يكون فيضانها. واحد يسرق مغازة تقوم القيامة وواحد يسرق بلاد في أمره نظر. القروي بريء والشاب المقهور المفقّر المحروقة أعصابه كلب ابن كلب. بمحطة معقولة يطلب المرء من ربّه أن يردّ القضاء. بمحطَة مجنونة لا يطلب أكثر من بعض لطف في القضاء ونحن بمحطّة مجنونة جدّا لو يعلمون. هذه تدوينة للشهادة فقط ولا تعني عودة للتدوين. لا أراني أنفع مقارنة بجهابذة التحليل السياسي ولا أراني أفهم في تفكيك مشهد وتحليل. لو حضر المحلّلون زمن نوح والطوفان ما كان احد منهم سيهتدي الى السفينة. محلّلون، يحوّلون الحرام حلالا ويزيّفون ويرتكبون اثما عظيما. ويحتمل التحليل أكثر ممّا ذكرت من معنى. لم أشارك في ثورة الناس الأولى ولم أخنها. لا أراني مشاركا في ثورتهم الثانية ولن أخونها. في كلّ الأحوال أعتبر نفسي بريئا من الانتكال الديمكراطي.”
منقول عن الهذيلي المنصر..
المعز الحاج منصور.
مرصد الشفافية والحوكمة
شبكة المدونين الاحرار.