بقلم حكيم بن حمودة
أثار قرار وكالة الترقيم Moody’s أو موديز بالتخفيض في ترقيمنا السيادي من ب2(B2) إلى ب3 (B3) مع آفاق سلبية الكثير من الجدل والنقاش في الفضاء العام .
ولئن لم يكن هذا التخفيض مفاجئا بل منتظرا فإنه كان صادما باعتبار أنه أشار بطريقة لا لبس فيها إلى الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي نمرّ بها وإمكانية حصول الأسوإ في الأسابيع القادمة وعجزنا على الإيفاء بالتزاماتنا مع ما سينجر عن ذلك من انعكاسات خطيرة على سيادتنا الاقتصادية والسياسية .
ولفهم أهمية هذا التقرير لابدّ من العودة إلى دور وكالات الترقيم السيادي والتأثير الكبير الذي تلعبه في الاقتصاد الدولي .
• دور وكالات الترقيم السيادي
يكمن دور وكالات الترقيم في تقييم قدرة البلدان أو المؤسسات الخاصة أو مؤسسات الحكم المحلي كالبلديات على احترام تعهداتها المالية وخاصة دفع دينها في الآجال المحددة.وتقوم هذه المؤسسات بإعداد تقاريرها بدعوة من الزبون أي الدولة أو المؤسسة الخاصة لإقناع المستثمرين بحسن صحتها المالية وقدرتها على الإيفاء بالتزاماتها وبالتالي لتشجعيهم على الاستثمار .
وتدرس الأسواق المالية والمستثمرون على المستوى العالمي تقارير وكالات الترقيم السيادي والتي تحدد مستوى الاستثمار الذي سيقدمون عليه ونسب المخاطرة التي سيقومون بها .
وتعود وكالات الترقيم السيادي إلى تاريخ النظام الرأسمالي وقد ظهرت أولى هذه المؤسسات في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1841 اثر الأزمة الاقتصادية لبداية 1830.وقد أظهرت هذه الأزمة هشاشة بعض المؤسسات الاقتصادية وعدم قدرتها على الصمود أمام الرياح العاتية للأزمات الاقتصادية.وهذه الهشاشة كان لها تأثير كبير على استراتيجيات المستثمرين الذين خيروا التريث وعدم المجازفة في استثماراتهم باعتبار شح المعطيات التي يملكونها عن المؤسسات الاقتصادية .
وجاءت في هذا الإطار مؤسسات الترقيم السيادي والتي حاولت ملء الفراغ الذي نجده في النظام الرأسمالي والقيام بدراسات دقيقة وواضحة حول الأوضاع الاقتصادية للدول والمؤسسات الخاصة وبصفة أساسية حول أوضاعها المالية وقدرتها على الإيفاء بالتزاماتها تجاه المستثمرين .
ومنذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر شهدت شركات الترقيم السيادي تطورا كبيرا لتصبح عنصرا هاما في تطور النظام الرأسمالي إلى جانب شركات المحاسبة هذا إلى جانب عديد المؤسسات المختصة في الخدمات المصاحبة للنظام الاقتصادي .وقد تدعّم دور هذه الوكالات في فترات الأزمات الاقتصادية حيث تكون المخاطرة من جانب المستثمرين صعبة ومعقدة .
وقد عرفت السوق العالمية لوكالات الترقيم في السنين الأخيرة هيمنة ثلاث مؤسسات أمريكية كبرى وهي موديز وFitch( فيتش) وStandard and Poor’s وستاندر اند بورز والتي تمثل أكثر من %95 من جملة المعاملات في هذا المجال .وقد حاولت بعض البلدان الأخرى فك هيمنة «الثلاث الكبار» في هذا المجال مثل الصين واليابان والهند.إلا أن هذه المؤسسات بقيت هامشية ولم تتمكن من الصعود بسرعة في السوق العالمية .
ورغم أهمية مؤسسات الترقيم السيادي الا انها عرفت نقدا كبيرا لعدم قدرتها على استباق الأزمات الكبرى وإعلام المستثمرين بخطورة الوضع الاقتصادي والمخاطرة العالية التي دخلت فيها المؤسسات الاقتصادية .والأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 والتي كادت أن تؤدي إلى سقوط النظام العالمي وأكبر مثال على العجز الذي يصيب هذه المؤسسات.فإلى آخر وقت كانت تقارير وكالات الترقيم تشير إلى صحة وعافية المؤسسات المالية والبنكية الكبرى أسابيع قليلة قبل انهيارها في هذه الأزمة .
ومنذ هذه الأزمة أدخلت المؤسسات الدولية قيودا جديدة والكثير من الحزم في مراقبة عمل مؤسسات الترقيم العالمية.
هذه الملاحظات تشير إلى الأهمية الكبرى التي تكتسيها وكالات الترقيم السياسي وتأثيرها على آراء وقرار المستثمرين الخواص .
ولهذه الأسباب فإن قرار موديز بتخفيض تصنيفنا الائتماني بطريقة كبيرة ستكون له تأثيرات وتداعيات كبيرة على اقتصادنا .
• ما حيثيات القرار ؟
جاء التقرير صادما لأنه احتوى على قرارين في نفس الوقت وهو تمش لا تلجأ إليه وكالات الترقيم السيادي إلا في ظروف استثنائية وعند تقديرها لوجود نسبة كبيرة من المخاطرة والقرار الأول هو التخفيض في ترقيمنا السيادي والمرور من ب2 إلى ب3 وهو يعكس ترديا كبيرا في أوضاعنا الاقتصادية والمالية باعتبار إن بلادنا دخلت مرحلة خطيرة أصبح فيها الاستثمار يشكل نوعا من المضاربة (spéculatif) في لغة المستثمرين .
وغالبا ما يقترن التخفيض في الترقيم ببقاء الآفاق مستقرة .ولكن وكالة موديز رأت غير ذلك ورافقت التخفيض بإقرار آفاق سلبية .
إذن وحتى وإن لم يكن التخفيض مفاجئا فإن حجمه وقرار موديز بمصاحبته بآفاق سلبية شكل صدمة كبيرة ويعبر عن مستوى المخاطرة التي أصبح يمثلها الاقتصاد التونسي في رأي وكالات الترقيم والمستثمرين في العالم .
وعلى أهمية القرار النهائي وقرار التخفيض فإنه يجب علينا دراسة حيثيات هذا القرار والأسباب التي دفعت وكالة موديز الى القيام به .
لنتوقف على الأسباب التي دفعت موديز الى اخذ قرار التخفيض .وقد أشار التقرير إلى عديد المسائل المهمة والتي يمكن لنا أن نجمعها في مسائل أساسية .
المسألة الأولى هي الأزمة السياسية والتشرذم الكبير الذي تعرفه الساحة السياسية والذي يجعل اخذ القرار الاقتصادي والقيام به صعبا إن لم نقل مستحيلا .فالانقسام السياسي يعكس كذلك انقساما كبيرا حول الرؤى الاقتصادية والتصورات والبرامج الاقتصادية .وهذه الانقسامات والاختلافات لن تمكن الحكومة من تجميع توافق حول برنامج الحدّ الأدنى للخروج من الأزمات الاقتصادية المتعددة التي نمر بها ..
المسألة الثانية التي يشير اليها تقرير موديز والتي تفسر التخفيض فتهم ضعف الحوكمة الاقتصادية في بلادنا وعجز مؤسسات الدولة المهتمة بالشأن الاقتصادي .ويشير التقرير إلى التأخير الكبير في القيام بالإصلاحات الضرورية خاصة بالنسبة للمؤسسات العمومية والدعم وكتلة الأجور في ميزانية الدولة .
أما المسألة الثالثة والأساسية والتي يقف عندها التقرير فتخص غياب اتفاق مع صندوق النقد الدولي وتراخي بلادنا في بدء المفاوضات مع مؤسسة واشنطن .
وقد كنت أشرت في عديد المرات إلى أن الخطأ الكبير للحكومتين اللتين تعاقبتا منذ إنهاء الاتفاق السابق في أفريل 2020 هو عدم الانطلاق في مفاوضات جديدة مع الصندوق من اجل اتفاق جديد وإعداد أنفسنا لمفاوضات عسيرة ومعقدة ولكنها ضرورية بالنسبة للمستثمرين في الأسواق المالية العمومية .والى حدّ الآن وبالرغم من هذه التحذيرات لم تنطلق بلادنا بعد في هذه المفاوضات ولم تتقدم حتى بطلب لفتح النقاش مع هذه المؤسسة .
ولا يقتصر التقرير على تقديم أسباب التخفيض بل يشير كذلك إلى أسباب إضافته لآفاق سلبية .وهذا يشير إلى مسألة هامة وهي إيمانه بأن التحديات التي ذكرها لتفسير التخفيض ستتفاقم بدون أن تكون الحكومة قادرة على رفعها وبالتالي على إيقاف النزيف .
إن أهمية تقرير موديز لا تكمن فقط في قرار تخفيض الترقيم السيادي لبلادنا ومصاحبته بتحديد آفاق سلبية لاقتصادنا في السنوات القادمة .بل أن أهمية هذا التقرير تكمن كذلك في حيثياتها حيث لم يؤكد فقط على التدهور الكبير للوضع الاقتصادي والتنامي الكبير بل كذلك على فقدان أو التراجع الكبير لدرجة المخاطرة التي أصبح يمثلها للثقة في قدرة الحكومة ومؤسسات الدولة التونسية على القيام بالإصلاحات الضرورية لتغيير الواقع .
وهذه القراءة الموضوعية و- في نفس الوقت – الصارمة لوضعنا الاقتصادي سيكون لها تأثير كبير وانعكاسات سلبية في الأوساط المالية العالمية .
• ما العمل ؟
هذا الإنذار الخطير والأخير يتطلب من بلادنا ومن كل مؤسسات الدولة الشعور بالخطر الداهم وضرورة توحيد الصفوف من أجل إجابة واضحة وقوية تحمي بلادنا من الهاوية .
وقد أشرت منذ شهر أكتوبر الفائت إلى أن الحلّ الوحيد لهذه الأوضاع ولهذا التدهور الكبير للوضع الاقتصادي هو إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية مع اخذ قرارات شجاعة وجريئة لإنقاذ الاقتصاد وحماية سيادتنا الوطنية على قرارنا الاقتصادي .
يجب علينا اليوم الإسراع بدعوة مجلس الأمن القومي إلى الإنعقاد وضبط خطة اقتصادية واضحة المعالم،محددة ومرقمة من اجل إنقاذ البلاد والعباد .